دياسبورا فلسطينيي سوريا

2016-08-19 06:16:52

دياسبورا فلسطينيي سوريا
لمنذر جوابرة

مضى أهل اللجوء الأول واثقين من العودة إلى البيت والحقل، لذا لم يحملوا معهم سوى مفاتيح البيوت وأوراق الأراضي. بينما مضى أولادهم وأحفادهم إلى اللجوء الثاني لا يحملون شيئًا سوى الحلم بمكان يجمع شمل العائلة الصغيرة.

في اللجوء الأول صار المخيم مكانًا يحلمون بالعودة منه، وفي اللجوء الثاني صار مكانًا يحلمون بالعودة إليه. ولأنّ المخيم مهدّد بالاختفاء والانمحاء جرّاء القصف الجويّ والبراميل المتفجرة، ستنتقل فكرة العودة من الحلم بفردوسٍ آخر مفقودٍ إلى العبث.

هذا هو الواضح إلى حدّ الآن مما فعلته الدياسبورا الجديدة التي يعيشها فلسطينيو سوريا، فقد تضاعفت الخسارة إلى الحدّ الذي يصعب فيه التعامل معها جريًا على العادة الفلسطينية في تحويل الخسارة إلى بداية جديدة، ما لدينا الآن هو خسارة كاملة تكاد لا تقبل المجازات.

صحيح أنه في عمق ما حدث أنّ نكبة 1948 استعادت وهجها لدى الأبناء والأحفاد، فما سبق وسمعوه من الأهل في زمن السلام عن الخروج من البلاد، والمشي في البراري والقفار، بات واقعًا معاشًا في زمن يعيد نفسه، وأصبح عليهم فيه أن يكونوا أنفسهم وأهلهم في الآن ذاته، ما يجعل الأمر يشبهُ من سمع قصة فيلمٍ ثم وجد نفسه في دور البطولة! وصحيح أن أصحاب اللجوء الجديد لم يذوقوا المرارات القاسية التي ذاقها أصحاب اللجوء الأول، من حيث غياب أيّ أملٍ في الغد، والسكن في الخيام، والعيش على طحين وحليب "الأونروا"، ذلك أن الغالبية منهم اتجهت إلى دول الاتحاد الأوروبي التي وفّرت لهم لجوءًا كريًما؛ إلا أنّ الصحيح أكثر أن نكهة اللجوء والاقتلاع ظلّت تلتهب في الحلوق، فذلك الإحساس بأنك مطرود وهارب ومهان يواصل إيلام مناطق في الجسد والروح، تستعصي على الأدوية والمهدئات.

ما الذي سينتظره الفلسطيني بعد الضربة القاضية التي تلقاها مخيم اليرموك، الذي يُعدّ عاصمة الشتات، والمركز الذي يعطي للجوء والعودة معانيهما الحقيقية؟ ما الذي يبقى بعد سقوط العاصمة؟ لا شيء سوى التيه

هذا ما يعيشه عموم اللاجئين اليوم، لكنّ استثنائية المأساة في حالة الفلسطيني السوري هو شعوره المضني بأنّه لا من هناك ولا من هنا. وهذا ما تعبّر عنه عبارة "بلا وطن" التي تدمغ دول اللجوء الأوروبية أوراق الفلسطيني- السوري بها.

حين خسر الفلسطينيون المكانَ في المرة الأولى، جاء المخيم مكسبًا، أو نوعًا من التعويض، حيث أصبح مساحة لتشكيل الهوية والمعنى والوجود الفلسطيني، إلى أن وصل إلى لحظة أصبح الانتماء إلى المخيم تعريفًا للذات، وتأكيدًا على حقوق وثوابت وطنية، ودفعًا نحو ثورة تحلم بتحرير الأرض وإعادة أهلها، وهذا ما عبّر عنه الفدائيّ سعد في رواية "أم سعد" لغسان كنفاني، الذي يصلح أن يكون نموذجًا للفلسطيني الذي تحوّل من لاجئ مطرود إلى ثائر، يسخّر كل قواه وإمكانياته لاستعادة ما سُلب منه.

ورغم توالي الخسارات، كما لو أنها حظّ أو قدرٌ للفلسطينيين، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى خسارة مخيمات بعينها، كما حدث لتل الزعتر، إلا أنّه لم يكن هناك من يتخيّل أن يكون مصير هذا المخيم المُزال من الوجود نوعًا من النبوءة لمصائر المخيمات الأخرى كما يحدث على الأرض السورية.

خسارة المخيم هي ذروة التراجيديا الفلسطينية، هي التعبير الصافي عن وصول المأساة إلى لحظة عبثية لا نعرف ما وراءها، لحظة الخسارة المكتملة والتامة. 

ما الذي سينتظره الفلسطيني بعد الضربة القاضية التي تلقاها مخيم اليرموك، الذي يُعدّ عاصمة الشتات، والمركز الذي يعطي للجوء والعودة معانيهما الحقيقية؟ ما الذي يبقى بعد سقوط العاصمة؟ لا شيء سوى التيه!

كان الشتات الفلسطيني طريقة لصناعة حضور الفلسطينيين في العالم، وبيانًا موقعًا بدماء مقهوري العالم، بينما سيكون الشتات الثاني شتاتًا فقط، وربما لن ينقذ فلسطينيةَ الفلسطيني الذي سيولد بعد عقد، أو عقدين، من هذه المأساة إلا ما يوازي توراة أخرى.