من مجموعة "نوافذ" الصادرة قريباً

ظل الفراشة

2017-02-06 07:10:44

ظل الفراشة
بلا عنوان . للسوري فاتح المدرس

"لا أعتقد أن الأمر يتعلّق بالسن. أنا الآن في الأربعين، وما زلت حائراً. عندما كنت مراهقاً، اعتقدت أن الأربعينات بعيدةٌ جداً جداً. لم أفكر حتى فيما يمكن حدوثه. مع دخولي عالم العمل في بداية عشرينياتي، كنت واثقاً أن الزمن سيصقلني. في الأربعين، سأكون رجلاً واثقاً من نفسه، له ما له وعليه ما عليه؛ ولكن سأكون أنا أنا. هل تفهمني؟ اليوم ما زلت كما كنت، لا أعرف ما الذي أفعله. الإجازة الطويلة قد تكون مفيدة، تقول مارغريت. لا أعرف يا صديقي. تقول إن الإنسان يبحث عن نفسه بهدوء ويجدها. أنا أشك بأن يكون هذا كلام الكتب التي تقرأها باستمرار. ما الذي سيتغير إن كنت في مكان قصي أراقب الطيور؟ هل سأفهم العالم المحيط بي أكثر؟ لا أعتقد. المشكلة هي أنني لا أعرف من أنا. في الأربعين، ولا أعرف من أنا! هل تصدّق ذلك؟"

لم أرتح يوماً لهذه الفضفضة. يقول فراس إن وجهي مريح، والناس تعتقد أنني أصغي إليهم. ليس صحيحاً على الإطلاق. أنا أكره الإصغاء للناس؛ خصوصاً عندما يفتحون لي قلوبهم، قلوبهم الضجرة والمُضجرة عادة.

"ربما يعيش بعضنا دائماً على الحافة. لا نكون نحن نحن، إلا في ظروف خاصة."

"ها؟ ماذا تقصد؟"

"لا شيء. أريد فقط القول إنه ربما من المفيد أن تأخذ إجازة طويلة."

عشر دقائق أخرى أمضاها يتكلم عن نفسه، عشر دقائق أخرى تضيع؛ لن أحتسبها من الساعة المفترضة لدرس اللغة العربية هذا. 

يتأمل قليلاً أصابعه المنفوخة. المفاصل، إنها المفاصل المتضخمة. لم أفهم تماماً طبيعة هذا المرض. على الرغم من مرور سنين على إقامتي هنا، ما زلت غير قادر على فهم معظم المصطلحات التقنية، الطبية والهندسية والرياضية وغيرها. 

"يقول الدكتور إنني يجب أن أعود إلى عملي السابق، خلف المكتب. الغريب أنني كنت أفكر في هذا قبل أن يخبرني بان أصابعي لن تحتمل العمل اليدوي."

يعود الرجل إلى اللغة العربية. يردد، "أنا أريد خبز ورز، هي تريد سمك، هو يريد عصير."

أهز برأسي موافقاً. 

لم أفهم لماذا يريد تعلم العربية. قال إنه يريد شيئا مختلفاً، مختلفاً عما يفعله الآخرون، ومختلفاً عما يفكرون به. دائماً أسأل طلابي لماذا تدرسون العربية، أكثر من نصفهم يقول إنها مرتبطة بدراساتهم في الترجمة أو العلوم السياسية أو أشياء مشابهة؛ آخرون لهم صلات مع العرب: أحد الوالدين، أو أقارب أو أصدقاء عرب؛ بعضهم له أصول إسلامية، كالباكستانيين والأفغان وغيرهم، نصفهم علمانيون تماماً والنصف الآخر متدينون منفتحون. لم ألتق بمتعصبين، إلا فيما ندر. قلة فقط تدرس العربية دون سبب، فقط لأنها شيء مختلف. طالب رياضيات كان يدرس العربية، آخر يدرس علم الأحياء، والآن هذا الطالب في الدرس الخصوصي. 

يسألني إن كنت أدفع الضرائب عن الدروس الخصوصية. أجيب بأنني، ككل العرب، أتهرب من دفعها. 

في نهاية الدرس، يقف على الباب لدقائق. محبط هو من الحيرة. أنا، أيضاً، محبط من حيرته.

"إذن، هل ستعود إلى سوريا، في النهاية؟"

"تقصد بعد الحرب؟"

"أجل."

"على الأغلب."

أغلق الباب، وأتجه إلى المطبخ. يحتاج إلى التنظيف الفوري. أبحث عن عقب السيجارة الذي رميته صباحاً في سلة المهملات. أجد نصف سيجارة؛ أدخنها في البرد القارس على باب البيت، مراقباً بيتاً طلابياً يلهو ساكنوه كل يوم ليل نهار. فتيات يلاحقن فتياناً بخراطيم مياه. 

أغادر في موعد جولتي المسائية اليومية. أتجه إلى الحديقة الصغيرة التي تفصل شارع "عدم الشكر"، أو النكران"، إن ترجمنا اسم الشارع الذي أسكن فيه، عن شارع "حدائق تشابيل فيلد". أطفال يلعبون، وعيون الأهل اليقظة تراقب كل حركة. طفل مختل عقلياً يصرخ وحده وسط الملعب. يضرب الأرض بقدميه بعصبية. تقف أمه بجانبه شبه يائسة؛ تبتسم محرجة. ترد الأمهات ابتسامتها. يبتعد الأطفال عن وسط الملعب، تاركين المعوق وأمه وحيدين، كأبطال مسرحية تراجيدية تشرف على نهايتها. 

عشرات المراهقين يلهون: من رياضات خفيفة، إلى سجائر عادية وسجائر حشيش، إلى كحول بأنواعه المختلفة؛ عجائز يمشون على مهل، مبتسمين لكل شيء؛ فرقة موسيقية تعزف الجاز على الأكودريون، أتعرّف على اللحن. أقف لأستمع إليهم. يغالبني دمعي. أسأل نفسي متى سأعتاد على سماع فرق الشارع تعزف "لوي آرمسترونغ". رجل ضخم من أساتذة الأناقة يضمّ صديقته التي تشبه فتيات الإعلانات. أحسده بغِلّ، وأتابع جولتي متجهاً إلى النهر. يوم مشمس في الخريف البارد يدفع أهالي المدينة الصغيرة إلى الانتشار في كل زاوية. مشرّد يطلب المال بقناعة ورضا. لا يشبه المتسولون هنا المتسولين عندنا. كلبه الضخم ينظر إلي بتعالي وقرف. تستوقفني شقراء جميلة لتطلب مني التبرع لإحدى الجمعيات الخيرية. أفكر بأنني لم أتكلم مع أي من هؤلاء المتطوعين في السنوات الثلاثة الماضية. أتابع شفتيها وابتسامتها الساحرة. أستمع مظهراً اهتمامي. أسألها عن الجمعية ونشاطاتها بالتفصيل. تتحمّس المسكينة وتسهب بالوصف والأرقام. أستوقفها لأسأل عن اسمها، تجيب متشككة. أسأل عن عملها ودراستها؛ تجيب بامتعاض. أتركها في حال سبيلها. 

ألتقي أصدقاء عرب. نتبادل بعض النكات الذكورية عن النساء البريطانيات. أفكر بأنني يجب أن أتوقف عن تلقي وإلقاء مثل هذه النكات. لا أستطيع. أخاف من العزلة الاجتماعية. يمارس الأصدقاء الجنس مع الفتيات، ولكنهم لا يشربون. نتفق على أن نلتقي لاحقاً. أتابع جولتي مفكراً في الوحدة. لا أريد أن أصادق هؤلاء المنافقين، ولكنني أحياناً أشعر بحاجة إلى التواجد مع العرب. أصل نادي التعري. يفقد المكان سحره في ضوء النهار. طفلة تركض وتتبعها أمها. يرفعها الأب ضاحكاً ويحملها على كتفيه. ابنة أختي المطلقة لا تلعب مع أبيها على الإطلاق، أفكر بحزن. 

شابان ببدلتين أنيقتين يقتربان مني ويرفعان الكتاب المقدس في وجهي، سائلين إن كنت أثق بيسوع. أجيب بابتسامة شريرة، "أنا مسلم". يرتبكان ويعتذران بوجل. أدخل إلى السوبرماركت لشراء السجائر. أعلم أنني سأندم غداً. إن اشتريتها، لن أملك النقود لأشرب البيرة في نهاية الأسبوع. لا بأس. يعبس البائع الشاب في وجهي، كالعادة. لطالما أردت سؤاله لم يعاملني باحتقار؟ آخذ علبة السجائر وأخرج فرحاً بها. أتجه إلى مقهى "بيت اللهو". سخافة ترجمة أسماء الأماكن لا حدود لها. أجلس وحيداً، متأملاً النهر. مراهقةٌ تروي تفاصيل شجارها مع زوجة أبيها. يشتم أصدقاؤها المرأة بوقاحة لا حدود لها. كنت مثلهم في مراهقتي. متى تغيّرت بالضبط؟ ربما تدريجياً. ولكني ما زلت بهذه الوقاحة عندما ألتقي ببعض أصدقاء المراهقة. تبتسم النادلة لي، وتسألني عن أخبار رسالة الدكتوراة. أسألها عن بعض الأصدقاء المشتركين. النادلة صديقة فتاة أقمت معها علاقة لمدة قصيرة. أذكر أنني أيضاً كنت أشتهي هذه النادلة، ولكنني كنت أخشى من صداقتها مع الفتاة. الآن لا شيء يمنعني من المحاولة. أتذكّر أنني جلست في هذا المكان عندما أنهيت رسالة الماجستير، وعندما استُشهد محمود. لم يتغير شيء؛ فقط بعض التحسينات الصغيرة، وتغيير بضعة كراسي. رجل ثمل وحيد يمزح مع الزبائن بصوت عال. يتجاهله الجميع. 

أغادر "بيت اللهو" متبعاً النهر في تعرجه؛ أقف أمام الكاتدرائية الضخمة. قال القس يوم زرتها مع سمراء ثرثارة أن المدينة بُنيت حول الكاتدرائية. لم أدخل الكاتدرائية إلا مرتين. في الثانية طالعتني إعلانات تطلب دعم المسيحيين في سوريا. طلبت الكلام مع المسؤول، رفض. أرسلت إيميلات طالباً شرح موقف الكنيسة؛ لم يردّوا علي. تؤجر الكنيسة بعض أبنيتها للسكن. أسوار صغيرة تحيط بأبنية خاصة. أخرج من السور الكبير إلى الحديقة. تحت الجسر شابتان تقبلان بعضهما باستمتاع. على اليسار أبنية حديثة. شاب بألبسة هندية فضفاضة يعزف على آلة هندية مصدراً أصواتاً منكرة؛ ابتسامته المتصوفة أكثر إزعاجاً من موسيقاه المتصنعة. لطالما كرهت البوذيين والمتصوفة، وزادت كراهيتي لهم في الغرب. أتجاوز شجرة ضخمة تقف وحيدة بجانب بناء أثري مدوّر. أفكر بأن الأشجار والأبنية الأثرية تتشابه. يبدوان كشقيقتين اعتادتا الحياة معاً. أتجه إلى محطة القطارات. أقف حائراً. هل أتابع رحلتي مع النهر، أم أعود إلى قلب المدينة؟ نادراً ما أتابع المسير وراء محطة القطارات. غريب كيف يعتاد المرء مدينته، فينسى سحرها الخاص.

أتابع جولتي، عائداً إلى المدينة، مراقباً إخوتي البشر بفضول داكن.

تسطع الشمس فجأة بشدة. 

أقف في الساحة المزدحمة. 

تقفر الساحة تماماً، ليختفي إخوتي البشر. 

تنبح كلابهم مستغربةً.

تستمر المحلات والأبنية في الوجود.

فراشة تطير فوقي؛ يسقط ظلها على يدي.

تهمس شيمبورسكا في أذني،

"ويطير الظل عبر اليدين،

لا ظل غيره، ليس أي ظل، ولكنه ظل الفراشة.

عندما أرى مثل هذه الأشياء، يخونني اليقين

بأن المهم

أكثر أهمية من غير المهم".