تفاؤل العقل

2016-08-19 06:09:25

تفاؤل العقل
الخالدية - حمص

يُنقل عن غرامشي فكرة مهمة، هي: "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، حيث أنها تعني أن تحليل الواقع علمياً يفضي الى التشاؤم، لكن لا بد من أن نحافظ على تفاؤل الإرادة، أي على الإرادة في التغيير. وكان يعني ذلك أن التحليل العقلي لا يعطي مؤشرات متفائلة، لأن الوضع معقد وصعب، بينما علينا أن نحافظ على تفاؤل الإرادة.

ربما كان وضع أوروبا حين كرر غرامشي ذلك لا يسمح بالتفاؤل نتيجة تحليل الظروف القائمة، التي كانت تنذر بقدوم الفاشية. وربما كذلك كان الوضع في العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين يدفع كل تحليل لأن يكون متشائماً. فالانهيار الاقتصادي وتعميم الفقر والبطالة والعجز إزاء السيطرة الإمبريالية، واستبدادية النظم، وانتشار الإسلام السياسي، كل ذلك كان يؤشر الى وضع سيئ، وبالتالي يدفع الى التشاؤم. هذا ما كان يحكم النخب، واليسارية خصوصاً، ويجعلها محبطة واستسلامية، وتميل الى أن تكون إصلاحية. وبالتالي كانت تنحكم لـ "تشاؤم الإرادة" كذلك.

لكن، هل يمكن أن نكرر فكرة "تشاؤم العقل" الآن؟ أي بعد انفجار الثورات في البلدان العربية. ربما كانت الأمور قد أكدت التشاؤم بعد ما حدث لهذه الثورات، حيث سيطر الإسلام السياسي، وتعمم "الإرهاب الجهادي"، وعادت النظم القديمة، ولم تحقق الثورات أيّاً من المطالب التي طرحتها الشعوب، ربما على العكس، فقد ساءت الأمور أكثر.

ورغم تشاؤم الإرادة، حتى لدى قطاع من الشباب الذي لعب دوراً مهماً في الثورات، يمكن أن نعيد طرح الأمر بالشكل الذي يُظهر أننا في لحظة تقود الى "تفاؤل العقل" أولاً وأساساً. لقد كان "ركود الشعب" يجعل كل تفكير في التغيير أمراً خارج العقل، حيث أن التغيير لا يتحقق دون الشعب. ولهذا كانت كل محاولات إسقاط النظم خلال العقود السابقة للثورات طفولية مدمرة، لأنها ليست في أوانها. لكن انفجار الثورات عنى أن الشعوب لم تعد قادرة على تحمّل الوضع الذي باتت تعيشه، حيث البطالة العالية والفقر الشديد لقطاعات واسعة، وحيث التهميش والعنف السلطوي. وهو الأمر الذي يعني أن الشعوب قد تجاوزت الخوف من السلطة، وأن وضعها يدفعها لأن تتمرَّد لكي تغيره، وبالتالي لم تعد تميل الى "الاستقرار"، أو تعيش حالة "ركود".

فقد بدأت الثورة كحراك عفوي، لكن ذلك فتح مساراً لإعادة بناء الوعي وصياغة مطالب الشعب في مشروع واضح

هل هذه حالة مؤقتة؟ النخب التي هللت للثورات بعد أن كانت تدين الشعب لاستسلامه، وبنت إستراتيجيتها بعيداً عنه، توصلت إلى فشل الثورات التي حدثت، ولهذا بعد أمل كبير موهوم عادت الى اليأس. هذا يشير الى سيادة منظور شكلي، لا يفهم الواقع، ويؤسس على ما يشاهد "في الصورة"، لهذا كان يفسّر الركود باستسلام الشعب، وفسّر انفجاره بحجم أكبر مما هو في الواقع وما يمكن أن يحقق، ثم عاد الى مواقعه مُصدِراً حكمه القاطع بالفشل. لكن، إن الانطلاق من فهم الأساس العميق لهذه الثورات سيوضح بأن الأمر أبعد من ذلك، وأن الثورات بدأت، فأسست وضعاً ثورياً لا يمكن أن ينتهي دون تحقيق التغيير الذي يحقق مطالب الشعب، أي إسقاط النظام الاقتصادي السياسي القائم لمصلحة نظام يعبّر عن الشعب ذاته.

فأولاً لم يعد الشعب قادراً على تحمّل الوضع الاقتصادي الذي بات يعيش فيه، لأنه وضع يدفع الى الموت نتيجة البطالة المرتفعة والفقر الشديد والتهميش وأزمة السكن والوضع الصحي السيئ. هذا الأساس هو الذي شكّل الوضع الثوري، ودفع الى نشوب الثورات، ويجعل انفجارها مستمراً. وهو الوضع الذي سيضعف السلطة ويجعلها غير قادرة على الحكم، رغم الميل الى استخدام العنف والوحشية، والمناورات لامتصاص الأزمة. بالتالي لم تفشل الثورات، بالضبط لأنها لم تتوقف، ولم تصل الى نهايتها. والانفجار الأول سوف يتبعه انفجارات أخرى الى أن يتحقق التغيير الجذري. وثانياً، إذا كانت أزمة الثورات أنها كانت عفوية ولم تلتقطها الأحزاب لكي تطورها وتنظمها نتيجة "موت" هذه الأحزاب بميلها الاستسلامي، فإن الانخراط في الثورة فتح باباً واسعاً لتجذر فئات واسعة، ولتطور وعيها واكتسابها خبرة حقيقية. وهنا يتعلق الأمر بالشباب المفقر والمهمش، وببعض الأفراد من الفئات الوسطى، حيث يمكنها أن تكون أساس بديل حقيقي، يطرح مطالب المفقرين ويعمل على انتصارهم.

إن كل تحليل علمي سوف يوصل الى هذه النتيجة، فقد بدأت الثورة كحراك عفوي، لكن ذلك فتح مساراً لإعادة بناء الوعي وصياغة مطالب الشعب في مشروع واضح، وتنظيم الحراك الذي بدأ عفوياً لكي يوصل إلى الانتصار بالاستيلاء على السلطة.