"أمور شخصية" لمهى حاج: عن روتين يومي يكشف حياةً معطّلة

2017-01-16 06:32:00

من «أمور شخصية» . مهى الحاج

تتكثّف الحكايات اليومية لأفرادٍ، يرتبطون بعلاقات عائلية، كي تصنع فضاءً إنسانياً مفتوحاً على سردٍ يكشف ذواتٍ مُتعبة، وأحلاماً معلّقة، وخيباتٍ عديدة، ومسالك متناقضة. والتكثيف، إذْ يُترجَم بعنوانٍ يشي بالكثير، يضع التساؤلات في صلب المعنى البصريّ للمصائر البشرية، ويهتمّ بتفاصيل يُعانيها آخرون، لكنها تبدو ـ هنا ـ أكثر خصوصيةً في التنبّه إلى أحوال تلك العائلة. ففي مقابل الحميميّ، الذي يتضمّنه العنوان والنصّ السينمائيّ معاً، وأحوال العائلة وأفرادها أيضاً، تنفلش الصُوَر على ما هو أعمق من الظاهر، وعلى ما يتجاوز المباشر والمرويّ.

مناخات

هذا كلّه تلتقطه المخرجة الفلسطينية مهى الحاج (مواليد الناصرة، 1970)، واضعةً إياه في أول روائي طويل لها، بعنوان "أمور شخصية". وللعنوان دلالته المباشرة والحسّية، التي تصبو إلى تفكيك العالم الضيّق للعائلة، وإنْ يتوزّع هذا العالم على بقاع جغرافية في فلسطين المحتلّة (الناصرة ورام الله) والسويد. فالنسق المعتمد منصبٌّ على سرد أمور شخصية جداً، تتعلّق بهؤلاء الأفراد، الذين يواجهون تحدّيات عادية في يومياتهم؛ لكنه ينسحب على مناخٍ إنساني جماعيّ، معقودٍ على أساليب عيشٍ وتواصل بين الناس، وعلى أحوال الجغرافيا المحاصَرة باحتلالٍ، أو بتقاليد اجتماعية لن تنكشف علناً، بقدر ما تتحكّم، وإنْ بطريقة مبطّنة، بمصائر الأفراد ـ الشخصيات الرئيسية.

فبين الحميميّ المتعلّق بأحوال العائلة ـ والمخرجة لن تتنصّل من حضورٍ ذاتيٍّ لها في هذه الشخصية أو تلك، أو في هذه الحالة أو ذاك السياق ـ واتّساع مدى الصورة في قراءة شيءٍ من أحوال بيئة، وإنْ من خلال أفراد العائلة أنفسهم، ترسم مهى الحاج تفاصيل صغيرة، كي تخترق كياناتٍ حيّة تُقيم في بلدها، وتصطدم بتشابهٍ حادٍ في يومياتها، وتخضع لأهواءٍ وأمزجة وضغوط. أما التوغّل في المسامات الصغيرة لأفراد العائلة وحكاياتهم، فيبتعد عن سردية "المواجهة النضالية" ضد المحتلّ، الذي يختفي حضوره الماديّ المباشر بشكل شبه تام، باستثناء لقطات أخيرة، تتيح تعبيراً عن مواجهة يرتكز على الرقص، المنبثق من تداخل السخرية بانسداد الأفق، والغضب برغبة خلاصٍ معلّق، تعثر كلّها، في رقصة "تانغو" داخل غرفة التحقيقات، على معنى آخر للعيش.

والعائلة مؤلّفة من أفرادٍ قلائل: والدان عجوزان يُقيمان في الناصرة، ويعيشان روتيناً قاتلاً (يُمضي الزوج/ الأب جُلَّ وقته أمام شاشة "لابتوب"، بينما تصرف الزوجة/ الأم يومها بين المطبخ وشاشة تلفزيون تكاد لا تتابع عروضه، والحياكة، ومحاولة الهروب من جارة مزعجة)، ويعجزان عن العثور على مَخرجٍ لنفادٍ لا يأتي، وإنْ يأتيهما خلاصٌ مرتجى وهما جالسان أحدهما إلى جانب الآخر أمام بحيرة هادئة، يُطلّ عليها منزل ابنهما البكر، المهاجر إلى السويد، في منفى طوعيّ لن يختلف روتينه اليومي، كثيراً، عن ذاك المتفشي في منزل والديه. أما الابن الثاني، فينفضّ عن كلّ ارتباط جدّي في علاقة مع شابّة تريده ويهرب منها. والشقيقة حامل في شهرها التاسع، تُقيم مع زوجٍ عاملٍ في كاراج، تمنحه الصدفة البحتة دوراً سينمائياً، ومع والدته العجوز، المغتربة عن راهنها باتجاه ذاكرةٍ قديمة تتمحور حول ارتباك علاقة بوالدها.

لن يكفي اختصار النصّ بتفسيرٍ كهذا. فالتفسير يكشف شيئاً من صفاتٍ وحالاتٍ خاصّة بكل واحد من هؤلاء، في حين أن السرد يتابع هوامش تحدث، ومسائل تعبر، ومآزق لا تُحلّ، ورغبات مكبوتة، وأحلامٍ موؤودة. لن يكون هناك حبٌّ، بالمعنى الرومانسي أو الأبوي أو الانفعالي، إذْ يبدو الواقع كأنه يحول دون انتعاشه في ذاتٍ أو روحٍ، مع أن الاكتراث الفرديّ بأهلٍ أو إخوة أو أصدقاء يشي بتحقيق مطلبٍ أخلاقيّ، وبشيء كثيرٍ من حبّ مخبّأ. ذلك أن الجميع مشغولون بهمومٍ تقترب كثيراً من أحوال الناس الآخرين، لكنّ الصورة السينمائية تمنح الحكايات/ الأمور الشخصية حيويتها في مقاربة أنماط عيشٍ في بلدٍ واقعٍ تحت احتلال، يبتعد الفيلم برمّته عن كلّ كلامٍ خاص به. والصورة نفسها تمنح الفضاء الإنساني شيئاً من نبضٍ يُصبح، عبر توليف (دومينيك لانج) يصنع توازناً بين العوالم المختلفة لهذه الشخصيات، إما في عالمها الخاص، أو في ارتباطات أفرادها بعضهم ببعض، أو في تواصلها مع عالم خارجيّ، هو المُقيم على مسافة جغرافية قريبة جداً منهم.

شفافية

والتواصل مع عالم خارجيّ قريبٍ، في بعض جوانبه الأساسية، يُشبه ـ إن يتحقّق ـ معجزةً ما. ذلك أن فلسطينيين كثيرين ممنوعون من الذهاب إلى البحر، أو من التجوّل في بلدهم، أو من الانتقال إلى مدينة أو بلدة فلسطينية أخرى لتصريف عملٍ أو لقضاء حاجة ما. وهذا لن يكون هامشياً في بلدٍ محتل، والاحتلال يفرض، قصداً، ممنوعاتٍ تطال جوانب أساسية لعيشٍ عاديّ. وهذا تُظهره مهى الحاج بشفافية سينمائية تنبثق من تصويرٍ (إيلاد ديبي) يتأرجح بين لقطات كبيرة وأخرى قريبة، وبين اشتغالٍ على تفكيك حالات وعلاقات وسلوك، ومتابعة لدقائق أمورٍ بسيطة، تتحوّل ـ في "أمور شخصية" ـ إلى كيانات سينمائية متكاملة.

منذ عرضه الدولي الأول في "نظرة ما"، في الدورة الـ 69 (11 ـ 22 مايو 2016) لمهرجان "كانّ" ـ يتردّد أنّ "أمور شخصية" يندرج في السياق السينمائي نفسه الذي يصنعه إيليا سليمان (1960)، ابن الناصرة أيضاً. لن تتنصّل مهى الحاج من هذا. تقول إنها تحبّ السينما التي لا تتكلّم كثيراً، لكنها لن تكتفي بسليمان وأفلامه، إذْ تعثر في أفلام التركي نوري بيلجي سيلان (1959) والفرنسي كلود ميلر (1942 ـ 2012) والسينما اليابانية، ما يُرضي شغفها ويسمح لها بامتلاك ركيزة ثقافية للصورة السينمائية، تدفعها إلى تشييد عمارة فيلمية أولى لها، تغوص في تشعّبات المساحة الزمنية لعيشٍ حقيقيّ، يمارسه أناسٌ محاصرون في بؤرٍ ضيّقة، يصنعونها هم أنفسهم لأسبابٍ مرتبطة بشخصياتهم وأحوالهم ووعيهم ورغباتهم، أو يصنعها لهم واقعٌ غير راضين به كلّياً، وغير قادرين على تبديله.

مع هذا، لن يبلغ "أمور شخصية" مرتبة الصمت السينمائي، التي تشتهر بها سينما إيليا سليمان، خصوصاً في فيلميه الروائيين الطويلين الأولين "سجل اختفاء" (1998) و"يد إلهية" (2002)، من دون أن يقع في فخّ الثرثرة، إذْ توضع الحوارات في المفاصل الأساسية والضرورية، وتُنسَّق الكلمات في مواضعها المطلوبة. أما الصمت، فيتألق في لحظة زمنية، أو في لقطة تتشكّل حولها رسوم وأمزجة ومرويات، أو في تصرّف، يتوصّل الممثلون إلى تأديته بحركةٍ أو تعبير خفيّ أو نظرة.

فلـ "أمور شخصية" كيان خاص، ينكشف في تنقيبٍ سينمائي ـ متين البنية الدرامية والسردية والأدائية والفنية ـ عن أمورٍ تُصيب كثيرين، لكنها تتحوّل مع مهى الحاج إلى عنوانٍ لبداية سينمائية صائبة وجميلة وممتعة.