مواجهة الاحتلال باللاعنف طريقاً للاستقلال والتقسيم

مونودراما "غاندي" لزيناتي قدسية

2016-12-30 07:52:06

مونودراما
"غاندي" لزيناتي قدسية

عاش الفنان المسرحي الفلسطيني زيناتي قدسية حياة مسرحية بلغت تسع وأربعين عاماً حتى الآن،  ولعبت نكسة حزيران للعام 1967 في الحرب مع الكيان دوراً كبيراً في تشكيله على مستويات متعددة، ولم تخرج العروض في السنوات الأربعة الأولى عن آثار تلك الحرب، وكانت البداية في المملكة الأردنية الهاشمية.

في أوائل العام 1971 انتقل إلى سورية، وانضم إلى فرقة المسرح الجامعي المركزي، وعمل أربع سنوات متتالية فيها مع مخرجين أكاديمين، وغادرها بعدها للعمل في "مسرح الهواة، الشباب"، الذي وسع من إطار تجربته ومعرفته المسرحية، وفي العام 1977 ساهم بتأسيس (المسرح التجريبي) الذي كان يشرف عليه الراحلان سعد الله ونوس وفواز الساجر. وفي عام 1980 أبرم عقداً مع وزارة الثقافة السورية بصفة ممثل في "المسرح القومي"، وعمل عشر سنوات من خلاله، أثمرت عن إعادة صياغة العقد القديم بصفة "خبير لشؤون المسرح"، وقد اتسعت مساحة عمله لتشمل الإخراج للمسرح القومي. بالتوازي مع ذلك ساهم منذ العام 1972 في تجربة "المسرح الوطني الفلسطيني" حتى العام 1985، وعمل مديراً فنياً لـ "فرقة مسرح العمال" كاتباً ومخرجاً، وعضواً في "فرقة المختبر المسرحي"، وكان عمله مع المخرج العراقي جواد الأسدي حالة من البحث الدائم والاندهاش والامتلاء الروحي.

بعدها انطلقت تجربته المونودرامية، وتأسيس "مسرح أحوال" مع شريك رحلته الطويلة الشاعر والكاتب الراحل ممدوح عدوان، ثم أصدر أول مجموعة مسرحية له بعنوان "الحصار" الذي شاركه في صياغة نصين منها الفنان والمخرج المعروف حاتم علي. وفي العام 2002 صدر قرار وزاري بتعيينه "مديراً للمسرح التجريبي".

 ويعد الفنان المسرحي زيناتي قدسية أيقونة مونودرامية مسرحية منذ أواسط ثمانينيات القرن الفائت حيث قدم خلال مسيرته المسرحية أكثر من عشرة عروض مونودرامية كانت بدايتها مع الكاتب المسرحي الراحل ممدوح عدوان في أعمال "في حال الدنيا" (1985) و "القيامة" (1986) و "الزبال" (1987)، كما قدم فيما بعد "شيء من غسان كنفاني" من توليفه مع الدكتور فيصل دراج في العام 1991، و "الطيراوي" عن نصوص لغسان كنفاني ومن إعداده وأخراجه وتمثيله في العام 1992، و"أبو شنار" من تأليفه وأخراجه وتمثيله في العام 2011، وأخيراً "غاندي" من تأليفه وأخراجه وتمثيله، وقدمها على مسرح الحمراء بدمشق في الشهر الأخير من العام 2016.

غاندي "وطنياً هندياً":

يوصَف غاندي بأبي الدولة والفكر السياسي الهندي الحديث ما بعد استقلال الهند، حيث نادى بالاستقلال منذ احتلال الهند من قبل المستعمر البريطاني، وعبر عن ذلك المسرحي زيناتي قدسية في أكثر من مشهد في مونودراما "غاندي" على مسرح الحمراء بدمشق، إذ أن وعود الإنكليز له وللشعب الهندي كانت كاذبة، كما هي حال وعودهم للشريف حسين القائد العربي الذي كان يمثل طموحات الشعب العربي الآسيوي في الاستقلال عن السلطة العثمانية في بداية القرن العشرين، فالإنكليز لم يفوا في وعودهم بالاستقلال، وإنما عقدوا صفقة مع الفرنسيين من خلال اتفاقية "سايكس-بيكو"، وقسّموا المنطقة العربية الآسيوية إلى مستعمرات تابعة للمحتلين الإنكليز والفرنسيين، كذلك قسّم الإنكليز الهند إلى دولتين: الهند وباكستان، وهذا ما جعل غاندي في نظر الجمهور الهندي وكأنه مسوّق للوجود الإنكليزي. يظهر الجانب الاستعماري هذا في المسرحية عبر شخصية الجنرال الإنكليزي الذي جسده قدسية، وهو يسير على يسار منصة مسرح الحمراء، وكأنه موجود بمؤتمر المائدة المستديرة، وهو يصرخ كجنرال مستعمر:

"اسمعوني جيداً... الاستقلال هدية أمة لأمة"، ويرد عليه غاندي أن الشعب الهندي "يلجأ إلى المقاومة المسلحة، المقاومة الحقة… تحيا الهند"، مثلما كانت الهند قبل تسعين عاماً، المقاومة الحقة لا تتناقض مع اللاعنف، العنف قانون البهائم، كما يدعو السيد المسيح، والرسول الكريم محمد، القوة النابعة من الروح.

إن الصراع الذي خاضه غاندي من أجل الاستقلال، وعدم تقسيم وزرع الفتنة الداخلية، حاول الممثل قدسية إيصاله إلى المتلقي عبر الحركة البطيئة وإيقاع سردي بطيء بعيد كل البعد عن الصراع الحركي الموجود في الحياة بين الهندوس والمسلمين على يسار منصة الحمراء. يركع زيناتي على ركبتيه معلناً فشله في منع الاقتتال والصراع بين مكونات الشعب الهندي، الهندوس والمسلمين، وزرع الطائفية من قبل الإنكليز من خلال ذلك.

فلسطينياً:

قدم الفنان زيناتي قدسية على لسان" غاندي" قضية غدر الإنكليز للفلسطينيين، كما غدروا بالهنود، حينما سلموا المحتل الإنكليزي الأرض الفلسطينية إلى اليهود الصهاينة، قائلاً: إنهم "عصابة من اللصوص" يسلّمون الأرض إلى الصهاينة، لذلك من حق الفلسطيني أن يقاوم إجراءات المحتل الإنكليزي والصهيوني، لأنها كلها تقوم على سلب الحق الأصلي وإعطاء حقه إلى مالك جديد آخر، وعن موقف غاندي عندما سلب الإنكليز الأرض الفلسطينية وقدموها لليهود يقول "لا يحق لكم ذلك، ويحق للفلسطيني أن يقاوم بكل الوسائل بما فيها القوة وحمل السلاح".

يعترف أيضاً غاندي بأنه فشل في تحقيق الاستقلال دون تقسيم، وهذا ما يذكّر بقرار التقسيم المعروف بقرار الأمم المتحدة 194 لتقسيم فلسطين إلى دولتين "دولة الكيان الصهيوني، إسرائيل"، و "دولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة".

إن معاناة غاندي تنتهي هنا بعدم قدرته على الحفاظ على وحدة بلاده الهند، كما كان واقع الحال في فلسطين والبلاد العربية المشرقية، وهذه ذروة المأساة الدرامية في شخصية غاندي التي قدمها الفنان زيناتي قدسية.

التمثيل والإخراج:

رغم توظيف الشكل الخارجي عند قدسية ليقارب شخصية غاندي، من زاوية المظهر، خصيصاً عندما تأتي الأضاءة على صلعته اللامعة. إلا أن  أسلوب الأداء التقليدي في العمل على النصوص المونودرامية من قبله يجعل إيصال كل ما يريد إلى المتلقي شبه مستحيل، وإذا كان الأداء البطيء يوضح ما يريد إيصاله، فالسرد الواسع وعدم وجود ديكور يملأ فضاء مسرح الحمراء يجعل الحركة عشوائية غير منتظمة في ممرات الإضاءة الثلاث التي شكلها ورسمها من أجل أداء أكثر فاعلية. ورغم كل بقع الإضاءة الدائرية لم يستطع قدسية إظهار العوامل الذاتية والنفسية للشخصية الدرامية لتشكل فعلاً مسرحياً عريضاً قابلاً للترجمة كأفعال تصل إلى المتلقي، بينما لم تفعل الخُطب المباشرة وأسلوب إلقائها مع التواء الجسد والهبوط على منصة المسرح، وانكماش الجسد في حركته للتعبير عن الوضعية الداخلية المأزومة كشكل خارجي، في حين جاء العكاز والزي ذو اللون الأبيض ليفصح عن حركة لم تبلغ مداها الأوسع للتعبير عن سماح روح وذات غاندي المتسامحة كمناضل سلمي لا عنفي رغم تضمين خطاب زيناتي حق المقاومة العنيفة للاحتلال. من هنا نسأل، هل كانت الكلاسيكية الأدائية في مونودراما "غاندي" جواز مرور للعرض في الوصول إلى المتلقي الذي اعتاد عليه قدسية؟!

إن كل ما قدمه زيناتي في هذا العرض لم يستطع مقاربة شخصياته المونودرامية السابقة، ولم تكن قريبة إلى المتلقي الدمشقي مثلما كانت شخصية "أبو شنار" على مسرح القباني في بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.