المقابلة: فيصل دراج

2016-11-18 09:04:45

المقابلة: فيصل دراج
الناقد الفلسطيني فيصل دراج

دون مقدّمات لهذه المقابلة الممتعة والغنيّة، ودون التعريف بفيصل درّاج، كواحد من أبرز النّقاد العرب، ننقلكم، قرّاءنا، إليها مباشرة، في حديث عن: الأدب الفلسطيني، نظرية الرواية، فلسطين وسورية، المثقف اليوم، الحزب اليوم...

 

قلت مرّة أن لا شعر لدينا بل شعراء، ولا رواية بل روائيين، وأن لا وجود لروائيين فلسطينيين كبار بل روايات كبيرة. ما الذي حال دون أن يكون كاتب رواية كبيرة روائياً كبيراً؟

إن كلمة "الشعر" كلمة عامة، لا تميّز بين شاعر وآخر، وفيها ما يوحي بأن كل من يكتب الشعر هو شاعر، وأن جميع الشعراء متساوون في الكتابة والموهبة، وهو أمر غير صحيح.. لهذا فالأدق أن يتم الحديث عن شعراء. فعلى الرغم من حديث السبعينات عن "شعراء المقاومة"، فقد كان بينهم، على مستوى الإبداع الشعري، فروق، فمن العبث أن نختصر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم في مصطلح "الشعر الفلسطيني المقاوم". هناك فروق وتمايزات وشعر كبير وآخر "مجزوء الشعرية".

وكذا الحال في مجال الرواية التي كتبها فلسطينيون، فهناك الاعتراف الأولي الذي يربط هذه الرواية بأسماء شهيرة ثلاثة: جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وغسان كنفاني. لم يكن هؤلاء الروائيون "متطابقين" في إبداعهم، من ناحية، ولم تكن القيمة الفنية لأعمالهم متساوية أيضاً. فقد كتب حبيبي عمله الكبير: "المتشائل" وكتب آخر أقل قيمة فنية منه هو: "لكع بن لكع"، وهو عمل هامشي. وتجلّى إبداع جبرا في رواية "السفينة"، وهي إحدى أفضل الروايات العربية في القرن العشرين، وكتب أعمالاً أقل قيمة "سراب بن عفان" على سبيل المثال.

إن التعميم تجهيل، والانطلاق من الكلي لا معنى له، وبالتالي فلدينا شعراء وروائيون، وفي داخل كل شاعر أكثر من شاعر، بقدر ما أن الروائي يتوزع على روائيين متفاوتي القيمة، وعلى روايات مختلفة ومتباينة. لا وجود "للواحد" المنسجم، الذي لا يقبل بالانقسام.

 

ماذا عن الحراك النقدي، هل هو فعلاً غير مواكب للنتاج الأدبي عربياً؟ وفلسطينيا؟

لا معنى للحديث عن "الحراك النقدي" إلا في علاقته بالحقل الثقافي القائم، أعربياً كان أم فلسطينياً، والذي لا ينفصل بدوره عن الوسائط الثقافية (الحوار، المجلات، الانفتاح على الموروث النقدي والنقد العالمي، السجال). لا أظن أن الأول، كما الثانية في صعود، بسبب غياب "التفاعل الثقافي"، على مستوى النقاد والقراء والروائيين... مع ذلك تظل الكتابة الروائية الإبداعية "قوّامة" على النقد وسابقة عليه، فالأعمال التي تحمل جديداً نوعياً هي التي تحض على نقد مجتهد. فالنقد الأدبي لا يسقط، من مجال يدعى: نظرية الأدب، إنما "يتحرك" ويتطور في علاقته بالجديد الأدبي النوعي. ولهذا يمكن أن تقدم بعض الروايات "مساهمة نقدية"، حين تتسم بالتجديد والتميّز. ومثال ذلك: "العقرب الذي يتصببّ عرقاً" للفلسطيني أكرم مسلّم ورواية اللبناني جورج يرق "حارس الموتى"، فهما تتضمنان مساهمة نقدية، بسبب الجديد الكتابي القائم فيهما. وكذلك الحال في نثر محمود شقير الجميل وعمل إلياس خوري الكبير: "اسمي آدم".

لا وجود للنقد الأدبي في ذاته، فهو جملة علاقات تتضمن القارئ والتفاعل الثقافي والارتقاء المعرفي، فمثلما أن القارئ الجيد يسهم في صعود "الرواية الجيدة"، فإن القارئ الساذج يسهم في صعود رواية ساذجة. ولا يختلف الأمر في حقل الشعر أيضاً.

 

أين يمكن أن تفترق الرواية كجنس أدبي عن علم الاجتماع وعن التاريخ والسياسة؟

تفترق الرواية عن علم الاجتماع والتاريخ والسياسة بأمرين: اللغة، فلا وجود لنص روائي إلا بلغة نثرية تختلف عن اللغة النظرية التقريرية، ذلك أن الرواية، كما الشعر، عمل في اللغة، وسجال مع "اللغة الفقيرة المتكلسة الجاهزة". والأمر الآخر هو "المتخيَّل"، أي تلك القدرة على اشتقاق عوالم متعددة من المعيش اليومي، تتجاوز المرئي وتنفيه وتجعله أكثر وضوحاً. والمتخيل الروائي، بداهة، يغتني ويتطور بالنفاذ إلى العالم الداخلي للإنسان، والمليء بالأحلام والكوابيس وبمفارقات الحياة والموت. المتخيل، في النهاية، شكل من المعرفة، يبدأ من معرفة ويفضي إلى غيرها. من السخف اعتبار المتخيل لعبة ذهنية شاردة، فذلك يدعى "الوهم" وهو من اختصاص الروائيين الزائفين.

 

هل هنالك تداخل كبير بين الرواية من جهة وبين العلوم المذكورة؟

طبعاً هناك علاقة بين الرواية وأجناس المعرفة الأخرى (علم النفس والفلسفة وعوالم الفنون).. لهذا تعتبر الرواية فناً كتابياً يتسوّل على موائد المعرفة والإبداع جميعاً، لكنها في تسوّلها المحسوب تنتج جديداً إبداعياً، مرجعه، في الحالات جميعاً، المتخيل واللغة، اللذان يحضان على التأويل وينهيان عن القول المفرد، الأقرب إلى الاستبداد.

 

بمعزل عن النقد الروائي، أين تجد نفسك أكثر، في الكتابة الفكرية، السياسية..؟

أجد نفسي في "نظرية الرواية"، شريطة اعتبارها حقلاً فنياً مركباً، تتضمن الفلسفة وتاريخ الأدب والرواية والصراع الاجتماعي... فبقدر ما أن الرواية تتأمل العالم وتنقده وتنفيه، فإن في نظرية الرواية، البعيدة عن المقايسات الذهنية، ما يتطلع إلى "عالم جديد" تسكنه قيم جديدة. تتضمن الرواية، كما نظريتها، أشكالاً من الرفض والمقاومة والاحتفاء بالجميل، وذلك الالتباس الخصيب الصادر عن المجازات والأقنعة، ذلك أن الرواية فن مجازي بامتياز يسمح بتعددية التأويل ("رجال في الشمس" مثالاً). ربما يكون في أعمال حسين البرغوثي ما يعبر عن القيم السابقة جميعاً، كان يكتب ويقاوم، لا بمعنى مواجهة المرض، بل بذلك المعنى النبيل الذي يرفض المحاكاة الأدبية وينفذ إلى الخبيء بأسلوب يكاد أن يكون غير مسبوق.

ليس المهم ما تقول به الرؤية، فالمهم هو الطريقة التي تقوله بها، وكذلك حال نظرية الرواية التي لا تحيل على مفاهيم جاهزة بل على نصوص مشبعة بالحياة، والطرَفان لا معنى لهما بمعزل عن منظور سياسي للعالم، يعيد ترتيب العلاقات جميعاً. ونظرية الرواية لا تشتق من "نظريات الرواية الكبرى"، بل من الأعمال الروائية في علاقتها بتاريخ ثقافي محدد.

 

قلت في أكثر من مكان بأنك لاجئ مرتين، الأولى من فلسطين والثانية من سوريا، لن أسأل عن الفرق بل عن ما يجمع بين التجربتين؟

عرفتُ فلسطين عن طريق القراءة والحكايات، غادرتها في الخامسة من عمري، وعرفت سوريا معيشاً وثقافة وطموحاً وتعلمّاً. عشت في سوريا عشرين عاماً متصلة. تعلمت أشياء كثيرة وبقيت فلسطينياً. هناك قوة الحكايات ومعالم اللجوء وشعور حزين بالاختلاف، وهناك: الإقامة في اللاّإقامة وانتظار زمن "لا مرض فيه"، ذلك أن الأحلام والضمائر الهادئة تحتاج إلى الشعور بالاستقرار.

اللجوء من سوريا إلى غيرها مرّ بالمكان ثم لحقت به الذاكرة، أما تجربة اللجوء الفلسطينية فهي تجربة وجودية شاملة، موحّدة المستويات، تتضمن الاغتراب والأسى والغضب ومساءلة التاريخ والمعرفة والعالم. والعنف في السؤال عن معنى الظلم والعدالة، ولماذا وقع ظلم لا ينتهي على شعب عادل لم يختلس أحداً؟

تترجم تجربة اللجوء الفلسطينية ظلم الوجود "كوميديا العدل الإنساني"، تساجل كل يوم شعارات العدل والمساواة و"مفاهيم التقدم"، وتسأل عن حق الفلسطيني في عالم منصف لا يحاصره بالنقص والممنوع وأطياف الموت والشهداء. وبالتالي فإن تجربة الفلسطيني تتعين بتعريف العدل المقاتل المتطلّع إلى تحقيق "عدل مجزوء"، فما عاش الفلسطينيون من غرابة، لا يزال سارياً إلى اليوم وسيستمر طويلاً.

 

أين المثقف الفلسطيني اليوم؟ ما مدى تأثيره وهنالك استقطابات قد تكون أقوى منه، فلسطينياً وعربياً وإقليمياً؟

المثقف كلمة كان لها سياق تاريخي مضى (زمن الأحزاب والسياسة ونظرية التقدم)، لا يريد البعض أن يعترف أن ما مضى يخلّف وراءه شيئاً مختلفاً، أو شيئاً نقضياً له. كان للمثقفين العرب، في زمن قريب مضى، دور، لا بسبب "فضائلهم"، وهي متوّهمة، بل بسبب السياق الذي شهد صعوداً شعبياً وأحزاباً سياسية فاعلة ومتنوعة، بعيداً عن "زمن الجماعات" التي تلغي السياسة وهي تلغي الفرد المتميّز باسم "إيمانية" متوهمة تساوي بين الأفراد جميعاً.

ألغى انطفاء السياسة في العالم العربي، منذ عقود، دور المثقف، على الرغم من استمرارية الكلمة (البعض يستثمر الكلمة ويحوّلها إلى سلطة). أما حصار الفلسطينيين، المتوالد المتناتج الدؤوب، فقد حاصر كل شيء، بما في ذلك "المتعلمين."

لا وجود للمثقف، إن وجد، إلا بمشاريع سياسية محتملة متعددة الأصوات ومستقبلية الأسئلة، لأن المثقف، تعريفاً، يتعامل مع المستقبل، أكثر من تعامله مع الحاضر والماضي، وإنْ كانا حاضرين، بالضرورة، في أسئلته المتوجهة إلى المستقبل.

 

وماذا عن الحزب، ما علاقة المثقف بالحزب اليوم، وقد كانت وطيدة أو ربما إلزامية سابقاً؟

الحزب السياسي ترجمة نظرية ـ عملية للصعود في الثقافة والقيم، وإشارة إلى تضامن أخلاقي ـ  معرفي جماعي، وانفتاح على مستقبل يبدو "مجهولاً". وكل هذا غائب اليوم أو مبتور الحضور. ليست المشكلة في "أزمة" قومية، أو وطنية بل في أزمة عضوية شاملة، تتضمن الحزب والنظرية والمعرفة والقيم وتتضمن، بداهة، الفئات الشعبية المستنزفة "عقلياً ومعرفياً"، والتي لا تنتظر شيئاً.

قال الفرنسي جاك بيرك مرة: العرب أمة لا تعيش ولا تموت، تغفو إلى درجة الموات وتصحو إلى تخوم "الانبعاث". لكن العرب هذه المرة تجاوزوا "السبات" واقتربوا من "احتضار طويل".