«خمارة جبرا» لنبيل الملحم

2016-11-06 12:17:23

«خمارة جبرا» لنبيل الملحم
نبيل الملحم

صدرت قبل أيام عن «منشورات المتوسط ـ إيطاليا»، رواية «خمارة جبرا» للروائي السوري نبيل الملحم. جاءت الرواية في ٣٢٠ صفحة، وتأتي الرواية بعد كتب عديدة للمؤلف من بينها روايات «آخر أيام الرقص» و«بانسيون مريم» و«سرير بقلاوة الحزين» و«موت رحيم».

ننشر هنا حديثنا مع الملحم عن روايته الجديدة التي قال بأنها "ليست رواية كرخانات وخمّارات، هي وقائع استيلاء المنحطين على بلادنا في تداخل زمني يمتد منذ ستينيات القرن الفائت إلى اللحظة، لتنطلق من اللحظة وتستعيدها، أبطال هذه الرواية هم البشر االمهمّشون، أولئك الذين لا يجلبون انتباهاً وباستحضارهم يكتبون التاريخ المجنون لبلادنا وقد آلت إلى ما آلت إليه، لقد كانت "فرنسا"، بائعة الهوى، شاهدة تدفّعهم الجزية، وهي المرأة التي لم تنج من مقصلتهم، وكانت كرخانة باب الجابية هي المؤشر الزمني على مرحلة سبقت لحظتنا السورية الراهنة ومهدت لها، في الرواية فقراء المدن، ومهاجرو الأرياف، وشعب جائع يقابله أفراد القصور الذين لا يشبعون أبداً من الساتان والحرير والحلوى، في الرواية حُبّ وحلم، وكوميديا إن شئت، وفيها شخوص كان علينا أن نراهم، هؤلاء هم فلاسفة الأرض لا بقايا السماء. وفيها وقائع حياة نراها من عيني رجل يتحرك على كرسي مدولب لا ليؤرخ، بل ليستحضر احتضاره وقد امتد لنصف قرن" ويضيف الملحم بأن "الرواية لم تشكل إضافة بالنسبة لي، إنها بداية جديدة لرواية لم أكن قد اخترت كتابتها… إنها بالنسبة لي روايتي وقد أثارت بي ولعاً أكبر بفضل قيمها الجمالية، وقوّة ناسها، وتلك الفوضىى والحماسة اللتين دفعتني إليها شخصيات عبقرية لم أكن أحظى بها لولا عبقريتهم: زمرّدة، فرنسا، جاد الحق، جبرا، ووارث أسنان أمه." خمّارة جبرا هي باختصار، يقول الملحم:

"- من قال أنّ خمّارة جبرا هي وطنٌ للموتى؟

بشر يندفعون ويبيتون في الثمالة، وحالما يعاودون الثمالة ثانيةً، تتعالى أصواتهم باللعنات، والحُب، والبصاق، وهم يلوحون بأيديهم راقصين بأقدام عارية، يابسة، متشققة، والمؤكد أن ليس ثمّة تبغ يتدفق على مكان في العالم بمقدار ما يتدفق إلى خمارتهم، وهذا ما دفع جبرا، لأن يمد يده بلفافة تبغ وهو يقول للصبي جاد الحقّ جاد الله، وقد استوقفه على باب الخمّارة:

- خذ إنّها آخر قطفةٍ وصلتني من حقول فيرجينيا.. دخّن."

هذا المقطع من الرواية يختزل الكثير، يقول الملحم. أمّا عمّا أضافته الرواية فقال إنّها "لم تُضف، هي رواية اقتلعتني لأستنبَت من جديد، ولا أظن أنني سأخرج من أسرها في وقت قريب، كل ما عليّ أن أفعله لأتابع مشروعي الروائي هو أن أتحرر منها… هذه الرواية لعنتي."
 

ننشر فصلاً من الرواية خصّه الكاتب لرمّان:

هنالك أشياء لم تُمس، الجثث الملقاة وراء المبنى الرئيسي لمشفى المجتهد ومشافي أخرى، زادت عن عشرات الجثث، وكانت الهمسات تشير إلى المئات، وكان تم إخراج الكثير منها من عُلب المشرحة لتدفن في مقابر جماعية عشوائية بعد استحالة العثور على من يتعرف عليها ليقوم بدفنها كما يليق بموتى لايشبهون الموتى.

عُلب الموتى في مشفى المجتهد الوطني، لم تعد تتسع للمزيد من الجثث، وكان دافعو كرسي جاد الحقّ جاد الله قد توقفوا دون حراك، وهم ينتظرون عبور تلك الشخصية التي لم يتعرفوا على حقيقة مكانتها، كذلك كان الهواء مُحمّلاً بلفحات جثث غاضبة.

-لم لا؟ من قال أن الجثث لا يتملكها الغضب؟

كانت الجثث مكتومة الهوية والعائلة، تطلق أنفاساً حارّة وغاضبة تصفع وجه جاد الحقّ جاد الله العجوز المتكوّر في ساحة مشفى المجتهد، وكان صوت الرجل القادم مع مواكبة من قوات أمن النظام يُردّد واثقاً، شرساً، مهتاجاً، أنه سيشنقهم من خصاهم، ناعتاً إياهم، بالخنازير، وأولاد الزنى، دون أن يُحدّد على وجه الدقة من هم هؤلاء الذين سيعبث بمصائرهم، ماجعل جاد الحقّ يعتقد بأن الرجل سيشنق موتى عُلَب المشرحة، أما ياسمينة، زوجة جاد الحقّ جاد الله الباكية على الدوام، فلابد أنها راعت أن لا تحرّك كرسي زوجها، ولو أنها عملت بمنتهى الحذر على مداراة جبيرة ساقه، وحين انحنت لتُقبّل جبينه، همست، بصوت متحشرج:

- لاتتركني وحدي.. لا تمُتْ.. بالله عليك لا تمُتْ.

لم تكد تقول ذلك حتى ارتفع صراخ حارس المشفى، كان جنّ جنونه، وهو يخاطب ياسمينة:

- دحرجي هذه القمامة من هنا. وأشار إلى جاد الحقّ جاد الله.

هو قمامة؟ سمع جاد الحقّ جاد الله من ينعته بهذه الصفة، كان راغباً بأن يشدّ يد ياسمينة، وهو نادراً ما أمسك بيد كائن حيّ ليشدها إليه طلباً للحماية، وكان على يقين من نُبل زوجته، ومن مشاعر المَهد التي مازالت تملأ روحها وقد تملّكته يافعاً في حيّ الصبّارة، حيث كانت ياسمينة بنتاً صغيرة، حلوة، ماكرة، تحمِل في عنقها نجمةً خماسيةً ملوّنةً بألوان خمسة، وخرزة زرقاء، مربوطة بخيط قنّب، وكان شعرها أشعث، يلتفّ على شكلّ خواتم، ولابد أن النظر إلى عينيها، والتدقيق فيهما، يعطي إحساساً بأنها بنت شرق آسيوية، وكانت واحدة من مجموعة صبيان وبنات، لكلّ منهم اسمٌ صريح، إلاّ هي، فقد كانت تلّقب بـ (اليتيمة)، وكانت تُقبّل جاد الحقّ، كما تُقبّل بقية الصبيان وتتصرف على سجيتها، ثم تنحدر في دهليز ترابي لاحقة به، وبعدها تتوقف على باب غرفة زمرّدة فاتحةً ذراعيها، ثم تدلف إلى الغرفة.

- دعيه من يدك.

قال لها، وانتزع المخطوطة من يدها.. لم تكن ياسمينة تعرف، ما الذي تعنيه مخطوطة عزرا بالنسبة إلى جاد الحقّ، كما لم تكن تعلم أن جاد الحقّ جاد الله مولعٌ بالصمت، ولكنها كانت تحمل إليه كلّ ما يتصل بعربون الصداقة:" خبز مُحلّى، سمكة مقلية، حبّات شوكولا من أفخر أنواع الشوكولا"، وهي بمجملها مسروقات كانت تُخبّئها مُتسلّلة من منزل مخدومها في منطقة الجسر الأبيض، وكانت تقول له:

- كُلْ.. هذه سمكة مقلية.

ماسجلت ذاكرته، أنه اشتهى ياسمينة، وكان على دراية كاملة بأنها لن تجد في هذا العالم من سيلاحظ وجودها سواه هو، لكن تلّك المعتوهة، وبعد أن تحسّست نفوراً في صدرها على شكلّ ثمرتين صغيريتين، انبعثت منها رائحة الباكم باودر إثر الخجل الذي أصابها، وربما كانت هذه الرائحة قد استوطنت جسدها، كنتيجة لا ستمرارها في سرقة حلويات مشغليها التي تؤول إلى فم جاد الحق جاد الله، وكان جاد الحقّ يصل إلى درجة الغليان كلّما لامس جسدها، ثم لا يلبث أن يداعب خيط قنّب عنقها، وقد انفتحت شهيته على التهامها.

- لماذا تبكي ؟ قالت له.

ثم:

- سأبكي معك، واسترسلت دون أن تنتظر منه إجابة وبكت.

في ذلك اليوم، كانت نتائج امتحانـات السرتفيكا قد أُعلنت، وكان اسم جاد الحقّ جاد الله، من بين الناجحين، وكانت ياسمينة، تصعد إلى السطح، مُتسلّقةً سلّماً خشبياً متهتكاً، وهي تكشف عن فخذيها، وكانت تمنح جاد الحقّ جاد الله انحرافه الخاص، وهو ينظر إليها، في الوقت الذي يتتبعه فوّاز زوج فرنسا بعينيه، جالساً القرفصاء في الزقاق، منتظراً مالن يأتي، باحثاً عنيداً عن زوجته وهو يحتسي الخمرة، ويُكرّر إنشاد النشيد الوطني السوري، ومن ثم يخاطب نفسه:

- متى ستعود؟

ماحصل أن فرنسا التحقت قسراً بكرخانة الروبير، ولم يكن التحاقها هذا سوى إذعان لأمر واقعٍ جديد حلّ بحياتها، فقد أدركت بعد تأمّلات طويلة، أن صعود الأشجار الضخمة، أفضل بكثير من زرع غراس قزمة، وكانت التحقت بكرخانة الروبير، حاملةً فوق أكتافها رهانها على الحضور الأخّاذ لزمُرّدة، وعلى الغرامافون وقد حملته من بيتها إلى غرفتها في ملحق الروبير، وانطلقت مع زمرّدة بدروس تبدأ مع بزوغ زمُرّدة من الحمّام، حتى التبرّج ورشّ مساحيق البودرة تحت الإبطين وبين الساقين، ومن ثم الظهور نصف مغطاة، بساقين عاريين، وجوارب بأربطة، وروائح قيلولة الظهيرة تنتشر في حقول كرخانة الروبير وفوق شراشف غرفها.

لم تكن فرنسا تتساءل ولو من باب الفضول، إنْ كانت زمرّدة مازالت بِكراً أم لا، ولم تكن زمُرّدة قد تعرفت على الجنس، سوى من خلال النظر إلى ممارسات حيوانية، هي الممارسات التي تختزنها ذاكرتها المبكّرة من ريف قصي، تمنح فيه الحيوانـات هداياها المعرفية للإنسان، عبر ممارسات جنسية علنية، لا مكان فيها لمفاهيم الرذيلة، والفضيلة، والعار، غير أن زمرّدة وقد باتت في كرخانة الروبير، وبات لها غرفة فيها بالشراكة مع فرنسا، أدركت بأن الأوان قد آن لتسأل فرنسا عما ستفعله حين سيأتي زبونها الأول.

قالت لها فرنسا، بوضوح:

- أنت كنزي يازمرّدة.

وما أن صمتت للحظات حتى استدركت واستدرجت حكمتها:

- ليكون الرجل تحت مشيئتك.. ايّ رجل، لايجب أن تبدين مُستحيلة ولا أن تبدين ممكنة، عليك أن تكوني المستحيل الممكن.

المستحيل الممكن؟ لم تفهم زمرّدة ما الذي تعنيه فرنسا بكلّامها هذا، غير أنها كرّرت الجملة أكثر من مرة لتحفظها عن ظهر قلب كما لو كانت تحفظ درساً.. المستحيل الممكن.

وهي تصعد سلالم الجزء الثاني من مبنى الروبير، والمُخصّص للبنات اللواتي يطلق عليهن بنات "اللوج"، اقتحمت فرنسا غرفة نجاح سبح، وحين دخلت وهي تلّوح بيدها اليمنى مثبتة يسراها فوق خاصرتها، صرخت بسبح:

- إنني أحتفظ بالكنز.. نعم إنهن كلّهن.. كلّ بناتك مجرد قذارة.. خرا.

الآن، بات على نجاح سبح، المرأة الأشهر في عالم القوادة، أن توضّح حقيقة موقفها، فهي وإن كانت من أولى القوّادات وأكثرهن شهرة، غير أنها كانت قادرة أن تمتص كالإسفنج آلام حشد كبير من البنات اللواتي يعملن تحت إدارتها، وكانت بالإضافة إلى ذلك لا تخلو من ضمير يقظ، يُجنّبها الغضب، وهي التي تتدفق غضباً بمواجهة رجال كبار، من أثرياء وأعلام سياسة، ووزراء، داوموا على تجنّب البوح بمعرفتهم بها بمواجهة الرأي العام مدارين سمعتهم، وحين نهضت نصف نائمة من فراشها، وهي تنظر بعينين متسائلتين إلى فرنسا، قالت لها فرنسا:

- أريد أن تكون غرفتي في اللوج.. نعم.. في اللوج.

كلّ بنات الروبير يقفن باستعداد وإجلال أمام سبح، وحدها فرنسا، دخلت حاضرة سبح، وكأنها عازمة على دخول دهليز ليست متخوفة من أن تتحطم في جوفه، أجابتها سبح، وكانت تتثاءب وتعوم في فراشها:

- لم أفهم..

- أريد أن تكون غرفتي في اللوج.

قبل أن تمضي سبح في المزيد من الاستفسارات قالت لها فرنسا:

عندي ماستان عظيمتان، البنت زمرّدة والغرامافون.

- غرامافون.. هل هو وزير؟ قالت سبح ساخرة.

- لا.. إنه.. ماذا أقول لك كيف سأشرح الأمر؟

وكأنها تغور في الوحل، فضّلت فرنسا أن تترجم الكلّمة بالحركة، وبرمشة عين، كانت تتراقص أمام نجاح سبح وهي تُردّد أغنية منيرة المهدية:

- أوعى تكلّمني بابا جاي ورايا.. ياخد بالو مني يزعل ويايا.

كان الفشل بالنسبة إلى فرنسا، منفذاً واسعاً للحرية، وكذلك اليأس، وكذا لم تكن أفكارها لتُحيّرها أبداً، فما تعتزم فعله، كانت تفعله، فقوّة اليأس، وتراكم الخيبة، لابد وأن يُحيل المرء إلى المجازفة باللعب مع مضّادات روحه.

بحدسها وخبرتها تفهّمت نجاح سبح طبيعة فرنسا، ماحدا بها إلى تقبل هذا النوع من السلوك المستهتر لواحدة من ملكات الكرخانات المخلوعات عن عروشهن، غير أنها وبنوع من الهرب من التسليم لفرنسا سألتها:

- الغرامافون وعرفناه.. ماذا عن زمرّدة.

- إنها بكر.. مازالت بنتاً بكراً.. ردّدت فرنسا كما لو أنّها تعرض بضاعة نادرة.

- حسناً اجلبي أغراضك وتعالي إلى اللوج.

إنها الليلة الأولى التي ستبيتها زمرّدة خارج كوخها في الصبّارة، تاركة الصبي جالساً في غرفتها، مُسنِداً ظهره إلى الحائط، تاركاً فتحة في الباب، تنبهه بحركة أقدام المارين الذين توحّد مشيتهم أحذية بلاستيكية، مصنوعة من لدائن ملوّنة كما لو كانت كرنفال ألوان، ولابد أن سمعه المفتوح على الزقاق، كان يتلقّى أصوات رجال مخمورين، يكرعون عرقاً بلدياً في خمّارة جبرا، جبرا الكهل العازب، القادر بالإضافة إلى إدارة خمارته على غرز حقن البنسلين في مؤخرات رجال ونساء أكثر عرضة لالتهاب اللوز من بقية سكان البلاد، ومع كلّ غرزة إبرة، ثمّة بنطال ينزل كاشفاً مؤخرة، ومع كلّ الإبر اللاحقة، يرفع تنانير نساء يفركهن بسبابته، ومن ثم براحة يده، وبعدها بالقطن الطبي المُبلل بالعرق، منتظراً نشوة سكر مؤخرات لا تلّبث أن تستلّقي، فيما الأزواج يمكثون جالسين في خمّارته، وقد أغلق عليهم بابها برتاج حديدي متعدد الأقفال، خوفاً من هربهم فراراً من تسديد مستحقات الخمّارة، تاركاً زبائنه يتأرجحون ثملين إلى أن يعود إليهم فاتحاً الأقفال وممعناً في تزرير بنطاله، لا يُكدّر طريق عودته، منظر الأطفال اللاهين، الذين يكاد يعتقد بأن معظمهم من صلبه، فيما آباؤهم الافتراضيون، يدقّون كؤوس العرق، وقناني بيرة ماكس، مطلقين مواويل ريفية، تطرق سمع جاد الحقّ جاد الله الصبي، وهو مستندٌ إلى الجدار، يصغي إلى نغمات بيانو آنــّا، وكأن معزوفاتها مطبوعة في ذاكرته، قطعة قطعة، وحركة حركة، لتأخذه نحو عالم آخر بفرسانه ومشاته، وتسحبه من محنة العقل وتداعيات هروب آنــّا مع أبيها، ولم يكن يعلم حينها أنهما اتخذا طريقهما إلى إسرائيل.

كان يصغي إلى أصابعها وهي تعزف شهرزاد، ليوهان سباستيان باخ، وكأنه يحتضر تحت موجة من السحر، والأضاليل، ولم يكن قادراً أن يروي لنفسه تاريخ الحكاية، ولم يكن قادراً أن يعرف بالتحديد متى انفصل عن نفسه بانفصاله عن بنت عزرا اليهودي، وكلّ ما كان يعرفه، أن عزرا أبلغه بكلّمات رجلٍ لرجل:

- يابني، كلّ ماعليك فعله، أن تفتح ممراتك بيديك.. لقد غدوت رجلاً.. أنت رجل مكتمل الرجولة .. هل تفهم، لقد غدوت رجلاً.

كان صوت عزرا حاضراً برفقة بيانو آنــّا، وكان صوت مواويل الهامشيين، الجالسين، المخمورين، يتسلل من الخمّارة إلى الزقاق، يقطّع روحه، ويقضمه قطعةً قطعة، وكان عليه أن يفرّ خارجاً من جحيم أصواتهم، تاركاً فوّاز زوج فرنسا، يترنّح مُكرّراً:

- وحق سميّك النبي محمد يا جبرا لالحقّ بالكابتن جان إلى باريس وأقتلّه.

- سميّي ياحمار؟ أنا اسمي جبرا ياعرص وليس محمد.

كان فوّاز المدلوق، يقف، ضامّاً راحتيه فوق فمه، تاركاً منفذاً للهواء، وبعدها، يعزف بفمه النشيد الوطني وكأنما باستحضاره لهذا النشيد، يعيد رتق نسيج حياته الممزق، نعم، كان ينشد كما لو أنه يرتقي إلى مصاف أولئك الرجال الذين طردوا فرنسا من بلادهم، كان يعزف إمعاناً في الثأر من الكابتن جوان الذي تذوب به فرنسا، ماجعل النشيد الوطني رقعة في ثوب حيّ الصفيح هذا ما بعد تكراره مئات المرات، مبثوثاً من فم فوّاز المدلوق، متحدياً بفمه غرامافون فرنسا، كما متحدياً أغنيات كانت تستوطن برامج إذاعية مخصّصة لبيوت بورجوازية، تترنح صالوناتها على صوت محمد عبد الوهاب، كدمى متحركة، بلا أية مباهج يمكن أن تذكر.

- من قال أنّ خمّارة جبرا هي وطنٌ للموتى؟

بشر يندفعون ويبيتون في الثمالة، وحالما يعاودون الثمالة ثانيةً، تتعالى أصواتهم باللعنات، والحُب، والبصاق، وهم يلوحون بأيديهم راقصين بأقدام عارية، يابسة، متشققة، والمؤكد أن ليس ثمّة تبغ يتدفق على مكان في العالم بمقدار مايتدفق إلى خمارتهم، وهذا ما دفع جبرا، لأن يمد يده بلفافة تبغ وهو يقول للصبي جاد الحقّ جاد الله، وقد استوقفه على باب الخمّارة:

- خذ إنّها آخر قطفةٍ وصلتني من حقول فيرجينيا.. دخّن.

قال ذلك لجاد بعد أن استوقفه فاتحاً ذراعيه، قاطعاً الطريق على مروره، وكان الصبي، يقرأ النوايا السيئة، ومايبيّته جبرا من حمّى لزمرّدة، وكان قد أبلغها أنه:

- وحقّ الله يا زمرّدة، سيأتي يوم أحمّمك بالعرق.

وحين تملّصت من بين يديه، تركها، واثقاً من أنها ستنفذ قسمه طائعة، فـ:

- لن تتركيني أقف بين يدي الله قبل أن أنفّذ قسمي.

كان جبرا قادراً على اكتشاف مكنون أيّة نفس بشرية، فبقلبه المضطرب، وروحه الممزقة، والصورة الجامحة لرجل خليط من أم شقراء وأب متفحّم، كان نشرة ليلية لكل سكّان الصفيح هذا، وكان بامكان جميع نساء الحيّ الاعتراف بأنهن كن شديدي السذاجة حين خلعن له كلاسينهن على الواقف.. ولم يحدث أن اعترفت واحدة منهن أنها استلقت ولو لمرة واحدة تحته.. كان رجلاً بالغ النزق، سريع الفرار من نفسه. كل ذلك لا يغيّر حقيقة أنه بات يخبو تحت إشعاع زمرّدة التي أوقدت روح رجل عاشق مؤجل، فما أن رأى الصبي ابن زمرّدة بالتبني حتى استوقفه ليقول له:

- مابك؟ خذ دخّن، سمعت أنك نلت شهادة السرتفيكا.. عظيم بعد ست سنوات تأخذ البكالوريا وتتطوع في الجيش لتصبح ضابطاً بنجمة، وسأقول لك سيدي الملازم، وستحرر لنا فلسطين وتستعيد اللواء السليب أيضاً.

كان جبرا يعلم تمام العلم، أن خمسينيّات سوريا، لم تفتح بوابات جيشها لضباط العائلات الفقيرة، وأن بوابات الكلّية الحربية لم تفتح سوى لما لا يزيد عن خمسين عائلة، من عائلات الإقطاع والآغوات وبورجوازية المدن، وكان يعلم أن خبط بوابة هذه العائلات لابد وأن يكون بتدخل مباشر من الله، أو بمكيدة من الشيطان، فمن تسلّل إلى الكلّية الحربية من أبناء العائلات الفقيرة، كأنما تسلّل من فوهات لهب ونجى، ومع ذلك كرّر جبرا للصبي مداعباً:

- دخّن سيدي الملازم دخّن.

تناول الصبي سيجارة جبرا الموقدة، وسحب نفساً عميقاً، ثم نفساً ثانياً، ونفث من منخريه كمّاً هائلاً من الدخان، وكان يداعب دخانه بنظراته وهو يدور حول محوره، وسط حريق سيجارته، ونظرات السكارى تحتفل لمنظره وهو يترنح في ليل المجاهل، مغادراً حي الصبّارة إلى حيث تجرّه أقدامه كما لو أنه ذاهب إلى صدفة.

دون إرادة منه، وجد نفسه يطوف حول منزل عزرا، ممتصاً حشداً كبيراً من المشاعر، وحين جثا تحت نافذة آنــّا، كان سكّان البيت الجدد، المقابل لمنزل عزرا، يرفعون صوت مذياعهم على آخره، وكان راديو الشرق الأدنى من لندن، يبث نبأ تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، وسط ليل صامتٍ، قطع صمته صوت بنت مُعاقة، كانت تطلق بكاءً حادّاً، لا شفقة فيه ولا رحمة.

وحده فوّاز المدلوق، كان يُهلّل لجمال عبد الناصر، وكان يمنح بركته للزعيم الجذّاب مُعتبِراً أن هذا الضابط الثائر على الإنكلّيز والملكية، سيأخذ بثأره من الكابتن جوان، الفرنسي الذي أودع قبّعته ومداعبات أصابعه فوق جسد زوجته فرنسا، ولهذا السبب، ومدفوعاً بالثأر من الفرنسيين، حفظ عن ظهر قلب خطاب عبد الناصر وقد أعلن فيه تأميم قناة السويس، وكان وهو يُردّد الخطاب باللهجة المصرية يخاطب العرب، كلّ العرب، مُحصِّناً ثقته بأن انتصار هذا الرجل، سيكون بالنسبة إليه موعداً مع ولادته الحقّيقية، وكان أن بالغ في شرب البراندي، ودلق القناني فوق صدره ووجهه، مُطلقاً عباراتٍ احتفالية بديلاً عن الأسهم النارية التي كان يمكن أن تكون تعبيراً أكثر سمواً من تعبيرات أنغام فمه وقد اعتقد أنها ستزيل مهزلة عشق زوجته للضابط الفرنسي.

- ما الذي تبحث عنه؟ سأله جبرا.

- لاشئ.. كلّ ما أريده هو أن يتابع الله مشيئته ويُنكّس أعلام الفرنسيين واليهود.

قال ذلك وغادر الخمّارة، مُتجِهاً إلى منطقة موحلة من الحيّ، وكان يُردّد بصوت مرتفع:

- من يرى منكم جمال عبد الناصر، فليقل له أنني سأحارب معه.

ثم يتوقف ليقول بصوت أخفض:

- ومن يرى منكم فرنسا فليقل لها:

- سأنسيها حليب أمها.. حين ينهزم الفرنسيون في السويس سأكون بعد هزيمتهم وحيداً معها.

"ستكون وحيداً معها" قال له جبرا، وتابع مطمئنِاً:

- سوف يكون ذلك، وسوف تهمس لها بكلّ الكلّمات القذرة التي تحملها رياح بطنك.. فسّاء، مثل أمك.