هناك أعمال فنية وأفلام تستفزك للكتابة عنها، دون مقدمات طويلة ومفاتيح عما أود الحديث عنه كفرش سجادة حمراء تحت كلمات عن فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران" فيكفيه من سجادات حمراء حيث عُرض بمهرجان "كان" بدورته الـ 78 ضمن مسابقة "نظرة ما"، وفاز بعد ذلك بالجائزة الكبرى من مهرجان فالنسيا السينمائي.
الاستفزاز الذي أقصده فيما يخص الفيلم ليس المعركة التي دارت على السوشيال ميديا، وتراشق الألفاظ عقب نقد بعض الأشخاص للفيلم، وتلاها اعتذار مراد مصطفى مخرج الفيلم عما فعله من دخول هذه المعركة والرد على الجمهور في التعليقات على الفيس بوك، مستنكراً ما فعله أحد ممثلين الفيلم من تحرش لفظي وهجوم، كل هذا العراك إذا نحيته جانباً ولم تشتبك معه ويستفزك كما أحاول أن أفعل للحفاظ على طاقتي النفسية، فالفيلم نفسه سوف يستفزك ولكنها إثارة إيجابية للمناقشة والبحث والكتابة، وقبل مشاهدتي للفيلم لم أكن مدركة مدى صدق عنوان مقالة الناقد أحمد شوقي عن الفيلم حيث كتب " عائشة لا تستطيع الطيران .. ليس لذوي المعدة الرقيقة"، ليس لأنه فيلم دموي وفقط، فكم من أفلام رعب مليئة بالدماء ولا يتقزز متفرجها أو تغثو معدته، ولكن تبعاً لتصنيف هذه النوعية من الأفلام ولأن لها جمهور محدد يحب متابعة الدموية بل ويتلذذ واصفاً إياها بالجميل والممتع وغيره من الأوصاف، مما يأخذنا إلى العلاقة بين رؤية ما هو جمالي في أقبح الأشياء، تضاد وثنائية تحمل الكثير في ثناياها، ويأخذنا إليها مراد مصطفى بأفلامه سواء القصيرة أو فيلمه الأول الطويل (عائشة)، رغم أنها ليست أفلام رعب ولا حتى رعب نفسي، ولكنها أفلام مهمومة بنقل الصورة كما هي دون تجميل ما هو قبيح.
ربما معرفتي بأن مراد نشأ في حي عين شمس الموصوف بأنه حي شعبي، الذي أنا نفسي كبرت فيه ومازلت إلى الآن فيه رغم وجود أحياء أشد قسوة وشعبية منه بكثير ولكن يميز عين شمس بالزحام كما لو كنت في ميدان رمسيس، تجعلني أتفهم ما يدور داخل رأس مخرج الفيلم فلا يمكن فصل همومنا كمبدعين عن الصور والتراكيب المتكونة معنا من الطفولة إلى الكِبَر، وإذا تسللت من ذهن المخرج إلى شخصية بطلة فيلمه عائشة التي تمثلها (بوليانا سايمون)، سوف نجد أمرين: الأول له علاقة بمفهوم الغرابة وتأثيرها ووجودها في الفن، وفي طياتها نجد ما قاله المحلل النفسي أوتو رانك في دراسته حول المقدس أن كلمة الغرابة في اللغة الألمانية تشير في جوهرها إلى "حاجة الإنسان أن يجسد خوفه في أشكال غير طبيعية"، فليس فقط مراد مصطفى يجسد همومه ومخاوفه التي يتابعها في أفلامها بشكل واقعي حد الغرابة، إنما شخصية عائشة نفسها تواجه خوفها وما تواجهه من عنف سواء عنصري تجاه بشرتها، أو عنف جنسي، أو العنف الذي تتابعه عبر شباك شقتها المظلم ضوئها، فهي أضعف من أن يعرف العصابة التي تحتل الشارع عبر أريكة قديمة وسيارة هما المقر الرئيسي لهم، بأنها تراهم، أو حتى القهر والاستغلال والضغط من هذه العصابة وقائدها بأن تُسهل لهم أعمال السطو والسرقة للشقق التي تعمل هي بها، تهرب عائشة من كل مخاوفها هذه ومسؤلياتها تجاه عائلتها الغير موجودة بجانبها، بخلق وهم غريب وهو وجود نعامة ترافقها وتظهر لها في أوقات غريبة كمنقذ أحياناً وكرفيق يؤنسها في وحدتها، وكضحية مغدور بها داخل مطبخ، المكان الذي يعمل به حبيبها الذي لا يختلف في ضعفه وفقره عنها رغم أنه مصري وليس مغترب وتم تهجيره مثلها، فالرؤوس تتساوى على هذه الأرض.
هذا ما ينقلنا للأمر الثاني الذي لم يغب عن بالي لحظة طوال مشاهدة الفيلم وبعده، وهو لعبة المرايات، فعائشة وأي من أفلام مراد مصطفى -بل حتى أي مبدع آخر- هي مرآه لمخاوفه أو همومه وما يرغب بحكيه حتى وإن كان يستخدم مدرسة القسوة والطبيعية مضيفاً لها القليل من الخيال، تم نقل لعبة المرآه داخل الفيلم حيث أول مشهد تقابل فيه عائشة هذه النعامة، يكون مشهد ليلي تلتف للخلف ظناً منها أن أحد يتتبعها فتراها، يقفان كلاهما على خط واحد ينظران إلى بعضهما، وتبدأ رحلة التوحد والتماهي من البطلة كما لو كانت النعامة هي المعادل البصري لعائشة أو هي مرآه لها، وربما هو هاجسها الداخلي بأن تتحول لطائر وتطير من سجن البيئة والعنف وكل ما تعانيه، ولكن نظراً لأنها "لا تستطيع الطيران" تحول الهاجس لطائر النعامة الذي لا يطير، النعامة التي تخفي رأسها في الرمال عند الخطر فقط وهو ما تفعله عائشة طوال الوقت فهي في لحظات الخطر تصمت وتفعل ما يريده الشخص الأعلى سلطة منها، ولكنها ترد بذكاء وتستخدم هي الأخرى من حولها تجعلهم أدوات يساعدونها، بل حتى فكرة أن بيئة النعامة التي تعيش بها هي السهول والصحاري الأفريقية أي عودة للبلد التي نشأت به عائشة وجذورها كل هذا يجعل تقبل وإجابة سؤال لماذا نعامة تحديداً واضحة.
الفيلم يناقش عدة قضايا بشكل جريئ بل حتى العنف وأعمال الشغب وبيع الممنوعات وعالم البلطجة يظهر وكأنه عالم غير موجود في هذا البلد، مثلما يحدث مع متابعة فيلم "إبراهيم الأبيض"، يداهمك شعور أن هذه البيئة والشخصيات خيالية وواقعية في آن واحد، متفردة، وهذا نابع من خصوصية المكان سواء اختار المخرج مكان واقعي أو استديوهات أو كلاهما بما يحتمه الفيلم، فتركيزه ينصب على ما هو طبيعي، وهو ما ينقلنا لأسوأ شيء في الفيلم وهو الهوية، الفيلم مصري بطلته سودانية، وتقترب من فتاة سودانية أخرى ولكنها تعيش وسط مجموعة، وهو ما يقلل الاضطهاد والعنف الذي تواجهه عائشة، بل ويجعلها أجرأ في ردود فعلها حين يشتمها أو يضربها الرجل الذي بمكتب توظيف عاملات النظافة، وتتحرك عائشة على مدار الفيلم ما بين بيتها المهدد وليس به أمان، والشوارع وسط البلد وغيرها لتصل للمنازل التي تعمل بها، وترافقها الكاميرا من الخلف، كعادة مراد مصطفى في أفلامه القصيرة السابقة، أما المشاهد العديدة للبيئة التي تسكن بها عائشة تجعل من الحي عبارة عن حي يعيش فيه أفارقة وسودانيين فقط دون مصريين، والحقيقة أن أعداد المُهجرين كثيرة في كل حي ولكنهم يعيشون جنباً إلى جنب.
على الرغم من هجوم البعض على الفيلم بأنه غير جدير بأن يمثل مصر في مهرجانات عالمية، وهو هجوم يُبطل ما يؤسس له الفن وحرية التعبير، إلا أنه ليست قضيتي ولم يُشغلني هذا الأمر بقدر ما شغلني أننا طوال الوقت نتحدث كشعب مصري بشهامة ومضياف لكل الشعوب، ولكن لا يمكن إنكار وجود عنصرية في المعاملة تجاه الشعوب الأفريقية وكثيرون لا يحبونهم ويضطهدونهم، بل حتى حين يدور حديث عن مجموعة سودانيين أثاروا شغب واستخدموا أسلحة بيضاء في منطقة شعبية أتدارك فوراً أن ما فعلوه في الغالب رد فعل لفعل قاسٍ من مصري/مصريين، الفيلم يقدم هذه السردية بمنتهى البساطة بل حتى يجعلها في إطار العصابات وبائعي الممنوعات مصريين وأفارقة كلاهما معاً.
قبل مشاهدتي للفيلم كان يجول بخاطري عدة أسئلة لأنه طال انتظار الفيلم حيث جال عدة مهرجانات وهو فكرة يتم تمويلها وتطويرها، وصولاً إلى أنه الآن يُعرض بعدة مهرجانات عالمية، هل استحق الفيلم هذا الكم من الشركات والمنتجين الممولين؟ إنه سؤال لا يجيبه مخرج ومنتجة العمل وحدهما كونهما يعلمان تكلفة كل خطوة، وإنما حتى الجمهور المتذوق أصبح يستشف ويوازن هذه الأمور، أما السؤال الثاني هل استحقت هذه الفكرة أن تكون فيلم طويل وليس قصير وتكون ضمن مجموعة أفلام مراد القصيرة ؟ وهو سؤال إجابته تتضح بحذف عدة مشاهد ولا يتأثر مضمون العمل وبناء أحداثه.
ولكنه في النهاية تجربة تستحق المتابعة والتحليل فعائشة ليست باتمان، كما صورها أحد المشاهد التي تلعب فيه مع طفل جعلها ترتدي قناع باتمان وهو يرتدي قناع الجوكر الشرير، صحيح هي تقوم بمجهود بطولي في مواجهة كل ما يحدث لها من الجوكر (الحياة/الرجال)، ولكنها لا تستطيع الطيران مثل باتمان ولا النعامة فالأول بطل من صنع الخيال لا يطير فعلياً والثانية لا تطير من الأساس.
