"أخيراً، سيكون لنا مأوى سياسي"، لا أذكر إن كانت رسالة صديقي ياسر مكتوبة بالعامية المصرية أم بالإنكليزية أم بخليط منهما، لكن بأي حال كان تعبير "التشرد السياسي" الذي استخدمه لاحقاً بشكل تهكمي، وصفاً دقيقاً لما شعرت به، ويشعر به الكثير من منتسبي اليسار في بريطانيا. ليلتها كان عدد من سجلوا أسماءهم على منصة حزب "يور بارتي" (حزبكم) الإلكترونية قد تجاوز مئتي ألف، وذلك بعد عدة أيام فقط من إطلاق المنصة وفتح باب التسجيل. بعد بضعة أيام أخرى، سيصل العدد إلى ثمانمئة ألف، وهو أضعاف عضوية أي من الأحزاب الرئيسية. كانت تلك لحظة واعدة بإعادة رسم الخارطة السياسية البريطانية بشكل جذري، وبلا شك لم يكن من باب المبالغة وصفها بالتاريخية.
منذ حصولي على حق التصويت في المملكة المتحدة قبل أكثر من عقد، داومت على أعضاء صوتي لمرشحي حزب العمال. كان ذلك خياراً عملياً، لا أكثر. نظام الحزبين (أو الحزبين ونصف باعتبار حزب الأحرار الديمقراطيين نصف حزب) لا يمنح الناخبين سوى اختيار محدود بين المحافظين أو العمال. وبالرغم من الخط الليبرالي الذي اعتمده الأخير منذ صعود بلير بـ "طريقه الثالث" إلى قيادته، إلا أن الحزب بقى كمظلة تضم معسكرات متفاوته أيدلوجيا، ومن بينها معسكر اشتراكي بقيادة جيرمي كوربين. كان نشاطي النقابي يعني أيضاً ارتباطاً بالحزب، فالنقابات بالرغم من قص أجنحتها، تظل تلعب دوراً في تمويل الحزب واتخاذ القرارات داخله. بكل الأحوال فوز العمال بمقاعد البرلمان والمجلس المحلي عن الحي الذي اقطنه أمر مضمون بشكل شبه روتيني. وذلك بسبب التركيبة للحي الذي كان معقلاً للطبقة العاملة قبل أن يشكل المهاجرين النسبة الغالبة من سكانه.
في الانتخابات العامة الأخيرة في العام 2024، كانت أول مرة لا أمنح صوتي للحزب، وصوت لصالح مرشح مستقل، كان بلا حظوظ على الإطلاق. تبع صعود ستارمر لقيادة العمال في العام 2020، عملية تطهير شبه "ستالينية" للعمال من لمنتمين معسكره اليساري. طالت تلك الحملة جيمي كوربين الرئيس السابق للحزب، حيث تم فصله بتهمة معاداة السامية، وهي التهمة التي تعني في الحقيقة نقد فظائع الدولة الإسرائيلية. أنزاح العمال تحت القيادة الجديدة نحو الوسط في سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية، وتبنت قياداته خطاباً يمينياً بخصوص مسألة الهجرة واللجوء. والأسوأ، اتخذ الحزب موقفاً مشيناً من الحرب في غزة. مع انطلاق العمليات العدوانية الإسرائيلية، صرح ستارمر بأن من حق إسرائيل منع الماء والوقود والغذاء عن غزة. بل وصوت الحزب ضد أول اقتراح طرح في مجلس العموم البريطاني للدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، وبقى معارضاً للأمر لشهور طويلة بعدها. كان موقف العمال من غزة وراء هبوط شعبيته لدى الكثير من ناخبيه المخلصين، وبالأخص بين الأجيال الأصغر سناً. ومع هذا فاز العمال بقيادة ستارمر بالانتخابات العامة الأخيرة قبل عام، لا لشيء سوى انهيار حزب المحافظين بعد 13 عاماً في الحكم، وعدم وجود بدائل أخرى.
كان صديقي ياسر، عضواً في حزب العمال الاشتراكيين، وهو حزب صغير وبلا تمثيل في البرلمان، وإن كان نشطاً بشكل ملحوظ، حيث يمكن رؤية نشطائه وهم يبيعون صحيفة الحزب بحماس أمام محطات مترو الأنفاق في أنحاء لندن. قدم الحزب ملجأ لنا أثناء العام الأول من الإبادة، حيث عقد بشكل دوري مؤتمرات داعمة لغزة، وكانت كلمات المتحدثين الحماسية في تلك الفعاليات تتجاوز حدود الخطاب السياسي المسموح به فيه بريطانيا، بل وأحياناً قد تضع أصحابها تحت طائلة تهمة تمجيد الإرهاب. لكن ومع استمرار الإبادة، توقفت تلك المؤتمرات عن تقديم تعزية لنا، وبدا واضحاً افتقادها للنجاعة السياسية.
بعد عام واحد في السلطة، فقد العمال الكثير من شعبيتهم في استطلاعات الرأي، وذلك بعد سلسلة من الفضائح والانتكاسات السياسية المتوالية. ورط الحزب نفسه في استعراض مخزي للقمع السياسي بتصنيف حركة "بالستين أكشن" منظمة إرهابية، وهو ما سبب نزيف لا يتوقف طالع سمعته وصورته العامة. لكن هذا التراجع لا يرتبط فقط بسياسات الحزب، بل بتغيرات جوهرية في البنية السياسة في بريطانيا. فخلال العقدين الماضيين، تراجعت حصة الحزبين الرئيسيين من أصوات الناخبين، ووصلت لمستويات متدنية غير مسبوقة. توزعت الأصوات الشاردة على أحزاب الأحرار الديمقراطيين والاستقلال البريطاني اليميني (ووريثه حزب الإصلاح) والخضر والحزب القومي الإسكتلندي. دفع تفتت الخارطة التصويتية إلى إعلان مبكر عن نهاية نظام الحزبين في البلاد.

جاء الإعلان عن تأسيس "يور بارتي" في ذلك السياق، وعلى خليفة عجز العمال عن تقديم بدائل لسياسات التقشف بعد عقد ونيف من حكم المحافظين، وتواطؤ النخب السياسية على الإبادة في غزة وتورطهم المباشر فيها. تصدي جيرمي كوربين وزارا سلطانة لقيادة الحزب ضمن له جماهيرية واسعة بين أطياف اليسار من أجيال مختلفة. بينما جذب كوربين المخضرم الأجيال الأكبر سناً والميالين للسياسة التقليدية، جذبت سلطانة الشباب والأكثر راديكالية. ضم الحزب أيضاً في البداية 5 من النواب المستقلين الذي خاضوا الانتخابات ضد مرشحي العمال، وربحوا على تذكرة غزة. سرعان ما كشفت استطلاعات الرأي عن تقدم سريع وغير متوقع لحظوظ الحزب في الانتخابات العامة القادمة، حيث نافس حزب العمال على المركزين الثاني والثالث. بينما حظي حزب الإصلاح اليميني بالمركز الأول أو الثاني. أما حزب المحافظين فتراجع إلى المركز الرابع أو الخامس. ومن المؤخرة شرع حزب الخضر في التقدم بشكل متتابع. وبدا وكأن نبوءة موت نظام الحزبين قيد التحقق.
في واحدة من الاجتماعات التحضيرية لـ "يور بارتي"، ظهر لي أن ما يجمع الحضور هو شعور عارم بالغضب، وتجاه حزب العمال على وجه التحديد. وكانت غزة حاضرة بقوة، فموقف الطبقة السياسية المروع من الإبادة زعزع الثقة في النظام السياسي بأجمله. أما الأخطار المتعلقة بإمكانية فوز حزب الإصلاح بالانتخابات القادمة فجاءت في مرتبة متأخرة من الاهتمام. كان واضحاً أيضاً، أن ثمة انقسامات داخل الحزب بين مجموعة بقيادة كوربين وأخرى بقيادة سلطانية، وثلاثة أو أربع مجموعات أخرى أصغر حجماً.
دون تأخير، ظهرت تلك الانقسامات على السطح، وبشكل فضائحي. أطلقت سلطانة منصة اشتراك للعضوية بشكل منفرد، وتلقى مئات الألوف من المسجلين في موقع الحزب رسالة إلكترونية تتضمن دعوة للالتحاق بعضويته وبيانات التسجيل لدفع الاشتراكات، وبعدها بأقل من ساعة وصلهم رسالة إلكترونية أخرى تعلمهم بأن المنصة غير قانونية ولا تمثل الحزب، وبعدها هدد كوربين علناً بمقاضاة سلطانة بخصوص 800 ألف استرليني جمعتها منصتها. كانت تلك البداية المشينة سبباً في انهيار الثقة في الحزب الوليد، وخيبة أمل مرة دفعت مئات الألوف من الانسحاب من الحزب وأنشطته. ولعدة أسابيع لاحقة، تتابعت فضائح الشقاقات في داخل الحزب، قبل أن تتجدد مرة أخرى في مؤتمر الحزب التأسيسي نهاية الشهر الماضي، حيث امتنعت سلطانة عن حضور فاعليات اليوم الأول، بسبب منع عدد من أعضاء حزب العمال الاشتراكيين من حضور جلسات المؤتمر.
الآن تقف عضوية الحزب عند 50 ألف عضو لا أكثر. وانسحب منه نائبان مستقلان من بين النواب الخمسة الذين انتخبوا بناء على برنامج داعم لغزة، وذلك بسبب خلاف حول سياسات الهوية وحقوق المتحولين جنسياً. فقد الحزب الكثير من مؤيديه المحتملين لصالح حزب الخضر، والذي قفزت شعبيته منذ انتخاب زاك بولينسكي زعيماً له في سبتمبر الماضي. يبدو أن الخضر أكثر تماسكاً وتوحداً، ويقدم حزبهم خطاباً جذرياً في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وملفات الهجرة والهوية. أما بخصوص فلسطين، فقد أقدم أعضاؤه على خطوة غير مسبوقة، حيث صوتوا بالموافقة في مؤتمره الأخير على تصنيف الجيش الإسرائيلي بوصفه منظمة إرهابية.
الأكيد أن قيادات "يور بارتي" ضيعت فرصة تاريخية واعدة بتغيير المشهد السياسي البريطاني بالكامل. لا يعني هذا أن الحزب قضية خاسرة بشكل نهائي. يبقى القول أن اليسار البريطاني مفتت بشكل غير مسبوق، لكن الإيجابي أن حزب العمال فقد احتكار تمثيله.
صوّت ياسر في مؤتمر "يور بارتي" التأسيسي وما يزال متفائلاً به، أما أنا فعلى الأرجح سأصوت للخضر في الانتخابات القادمة.
