حين كنتُ جاهلاً باللغة، أخذتُ عن أنصاف المتعلمين أن استخدام فعل "عشعش" خطأ، وأن الصواب "عشَّش". لم أقتنع بالأمر ولكني قبلته على مضض أو على تسليم أو على اكتفاء.
مع تجاوز بعض جهلي في اللغة، انبجست أمامي ينابيع كثيرة، فرحت أغب منها غباً:
عَشَّشَ الطَّائِرُ، أي اِتَّخَذَ عُشّاً. أما عَشعَشَ، فإنها أكثر تمكيناً وتراكباً من عشَّشَ.
والعُشُّ هو ما يجمعه الطَّائر من قشّ وعيدان وغيرها، ثم يشبكه أو يبنيه في إحدى الأشجار، في حين أن العَشْعَشُ هو العُشُّ المتراكبُ بعضُه فوقَ بعض.
وإذا قال لكم أحد أن جمع العُشُّ هو أَعْشَاش، فاعلموا أنه بخيل أو شحيح معرفة، فلم يقل لكم سوى ثلث الحقيقة، وضرب صفحاً عن ثلثيها المتمثلين بجمعين آخرين هما عِشَاشٌ وعُشُوشٌ. اللغة العربية رحبة وحُرّة، ولكن هناك من يحاولون تقييدها ومنعها من الخروج إلى الطبيعة والحياة في الهواء الطلق وتحت الشمس.
* * *
تبحث في غوغل عن قصيدة المعري التي يقول فيها "كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل"، فتجد مئات المواقع التي نشرتها، ومعظم تلك المواقع يقص ويلصق "على العمياني" كما حدث في نقل هذا البيت:
(ما لَكُم لا تَرَونَ طُرْقَ المَعالي = قَد يَزورُ الهَيجاءَ وَزيرُ نِساءِ)
حتى في الموقع الذي يتضمن ديوان المعري نجد نفس الخطأ في قوله "وزير نساء". كأن الناشر لا يفهم المعاني ولا يمتلك حساً وزنياً يرشده إلى أن المعري أراد "زير نساء" وليس وزير نساء.
يبدو أن أغلب المواقع المتخصصة بتوثيق الشعر مهتمة بالجوانب التجارية وليس بالدقة والأمانة، ولهذا فإن القيِّمين عليها يستخسرون دفع أي مبالغ مالية مستحَقَّة لمدققين ضليعين في الشعر. وما ينطبق على هذه المواقع ينطبق على المسلسلات التلفزيونية التي يكون أبطالها شعراء كمسلسلات امرئ القيس ومالك بن الريب والمتنبي ونزار قباني ومحمود درويش إلخ.
*
حين سمعت فيروز لأول مرة تغني "راعي بكي ومنجيرتو متلو" لم أفهم معنى "منجيرتو"، ولكن صورة "راعي بكي" أذهلتني. ذهبتْ ذاكرتي إلى قول النابغة الذبياني "وليس الذي يرعى النجوم بآيب" فتخيّلت راعياً أغنامه نجوم عند النابغة، وأغنامه دموع عند فيروز. حين كبرت وفهمت أن المقصود ب "راعي بكي" هو الفعل بكى، وليس البكاء، تبخَّر عندي الكثير من شاعرية المقطع.
*
إذا كانت العربية لسان الضاد، فإن الهولندية لسان الخاء بامتياز. ليس لتفردها بهذا الحرف، وإنما لتفردها بوفرته.
يندر أن تخلو لفظة هولندية من خاء أو اثنتين.
كثيراً ما سمعتهم في الشارع يقولون: خْرَاخْت.. وأحياناً خْرَاخ.
سألتُ مرة أحد أصدقائي عن معناهما فقال لي إن خراخت تعني: القناة أو الخندق المائي، وخراخ تعني: "حسناً" أو شيئاً قريباً من ذلك.
كلما افترق اثنان قال أحدهما للآخر "داخ". لا بد أن معناها وداعاً. وفي الصباح يقولون "خودي مورخن"، وقد عرفت لاحقاً أنها "goodmorning" الإنكليزية، وإذا أردتم كلمة بثلاث خاءات، فإني أعرف منها كلمة "خيخيخِل" بمعنى ضحكة، أو ربما ضحكة خفيفة.
*
دخل المحاضِر إلى القاعة، واتجه مباشرة إلى السبورة ليكتب "اللغة الأم"، ثم يلتفت إلى الطلبة قائلاً: هناك عدة تعريفات للغة الأمّ، وعدة اعتبارات ومستويات، ولكنّ سؤالي لكم هو ما سبب اختيار هذا المصطلح أو التسمية؟
الأول: ببساطة يعود السبب إلى أن الأمّ تعلِّم طفلها اللغة من لحظة تكوّنه كجنين في رحمها.
الثاني: السبب هو أن الأمّ لم تترك للأب أي فرصة للكلام.
الثالث: بل لأن الأب كان دائماً هو المعني بالعمل وتدبّر أمور العيش، في حين أن الأمّ مشغولة بالثرثرة.
الرابع: في البدء كان المجتمع أمومياً، ومن الطبيعي في هذه الحالة ربط اللغة بالأمّ لا بالأب.
الخامس: اللغة الأم، ما هي إلا اختصاراً لمصطلح اللغة الأمّة.
السادس: الأمر عائد إلى أوّل من صاغ هذا المصطلح ومستوى وعيه ومجتمعه وظروفه الحياتية.
السابع: التسمية ليست عادلة ولا تستغرق المعنى المراد. وحتى "لغة المهد" لا تستغرق المعنى في جميع أطواره ومستوياته، ولكن لا بد للبشر من التوافق على مفاهيم واصطلاحات رغم ما تنطوي عليه من درجات انزياح وهكذا.. بل هكذات.
* * *
كثيرون يعتقدون أن المستحيل مرتبط بالثبات وغير الممكن، وفي هذا الاعتقاد وهم وخطل كبيرين. المستحيل في الحقيقة نقيض الثبات، وهو في معناه اللفظي والواقعي، يقتضي التحوّل باستمرار، وبالتالي كلما أوشكتَ أن تدركه بدَّل حاله واستحال إلى حال آخر.
و"سبحان من لا يَحول ولا يزول"، تعني أن الله ثابت مطلق، وبالتالي غير ممكن ولا متحوِّل واقعياً أو إيمانياً.
كل حال تحول وتتحول وتستحيل. هكذا هو المستحيل بعمقه الفلسفي، كثير الممكنات النسبية الممتنعة عن الثبات والتحقق وقابلية القبض عليها.
ومن الناحية الصرفية فإن المستحيل اسم فاعل من فعل استحال.